تثير طبيعة التواجد الجهادي الصاعد في قلب قارة أفريقيا، الكثير من الجدل حول سرعة التحولات والمتغيرات التي تعايشها راديكالية هذه التنظيمات والتيارات، ما يستدعي مزيدا من التأمل والترقب لانعكاسات ذلك على وقع تمددها على الأرض وانتشارها في مساحات جغرافية واسعة من شرق إلى غرب أفريقيا، فضلاً عن تمركزاتهم على الشريط الحدودي لدول الساحل والصحراء ومحاولات ربط هذا المثلث ببعضه البعض.
وبات الحديث عن انتقال هذه التنظيمات إلى آلية جديدة، وعبور آخر من أجل بسط السيطرة والنفوذ والحصول على مكتسبات جديدة ممثلاً في الأنشطة البحرية العسكرية والمالية، ما مثّل فاعلا جديدا في مسيرة التنظيمات الجهادية هناك، خاصة بعد تعاظم أنشطتهم لتمثل بذلك ظاهرة أخرى آخذه في التمدد لتوازي أخرياتها.
في الواقع لا يعرف سوى القليل عن شكل الآليات وطبيعة الأنشطة البحرية، التي قامت الجماعات الجهادية بتوظيفها واستغلالها خلال العقود الماضية، رغم أن التجربة الجهادية في اعتلاء البحار ليست حديثة، إنما لها مقدمات وإرهاصات قديمة في بدايات التشكل الجهادي الدولي ولكن داخل جغرافيات محددة، حيث استخدم متشددون مثل “عسكر طيبة” القنوات البحرية للتسلل إلى الهند عبر القوارب، وتنفيذ هجوم مدمر في العاصمة التجارية “مومباي” إضافة إلى ما كانت تمارسه جماعة “أبو سياف” في الفلبين في العقد التاسع من القرن الماضي خاصة في جزيرة “مندناو”.
الصومال ومأزق الاعتماد على الحلول المستوردة
بيد أن هناك تطورا لافتا في توظيف الجهاديين للبحر وآلياتهم داخله، وظهر ذلك جليا في استخدامهم القوارب والزوارق الملغمة بدون قائد، والألغام العائمة، وغيرها، خاصة أساطيلهم البحرية -إن جاز الوصف- سواء لنقل أعضاء المنظمة، أو شن هجمات معقدة، أو تهريب الأسلحة، أو الاتجار بالسلع غير المشروعة، إذ إن الأنشطة البحرية تمنح المنظمات المسلحة العديد من المزايا، وتعمل على توسيع نطاق عملياتها فضلا عن مجالات نفوذها.
الجهاديون والبحار
لوحظ في السنوات الأخيرة ومع تزايد الوجود الجهادي في قلب القارة الأفريقية، نشاط للتنظيمات الجهادية آخذ في الصعود على المستوى البحري، خاصة في كلٍ من الصومال وشرق أفريقيا نظرا لطبيعتهما الجغرافية الساحلية.
وتأتى على رأس هذه التنظيمات كل من حركة الشباب الصومالية التابعة لتنظيم القاعدة الإرهابي، وجماعة أنصار السنة الموالية لـ”داعش” فضلا عن الدولة الإسلامية في شرق أفريقيا والصومال، تدفعهم الرغبة في فتح مساحات جديدة في المواجهة من خلال استغلال سواحل أفريقيا، إما من منطلق أمني ممثلا في شن المزيد من الهجمات وتكثيف وتنويع ضرباتهم العسكرية، أو عبر السعي الحثيث نحو التهريب والابتزاز بهدف التجارة وتوظيف الأنشطة البحرية كأحد آليات التمويل من أجل البقاء والتمدد، إذ بات ينظر إلى الساحل البحري على كونه شريان الحياة المالية لكثير من الجماعات الجهادية، لما يوفره لهم من قدرة تشغيلية وتوظيفية عالية.
من جهة أخرى، توفر المياه الساحلية والمحيطية والأنشطة البحرية فرصا كبيرة ومجالا مؤثرا، ينعكس على تلك التنظيمات، ما يسهم في التمدد والانتشار رغم العوائق في تحقيق قدر من التواجد الفعال والمؤثر نظرا لخطورته وحساسيته لوجود حواجز تقنية ولوجستية، وهو جانب مستحدث ومهم.
حركة الشباب الصومالية
تشن حركة الشباب الصومالية منذ أكثر من عقد، سلسلة من الهجمات على المنشآت والمدنيين، وتزداد عملياتها خاصة، حينما أعلن أيمن الظواهري انضمام الحركة إلى تنظيم القاعدة في عام 2012 ومنذ ذلك الوقت عززت مواقعها وتمركزاتها الجغرافية وامتدت لتصل البر بالبحر على تخوم الدولة الصومالية، ووصف الميجور جنرال داغفين أندرسون، قائد قيادة العمليات الخاصة الأمريكية في أفريقيا حضور حركة الشباب الصومالي بأنه يمثل “التهديد الإرهابي الأكبر في القارة”.
استهدفت حركة الشباب الصومالية في إطار نشاطها البحري أمرين اثنين، أولهما اقتصادي والآخر عسكري، تمثل الاقتصادي في محاولة السيطرة على حركة الموانئ التي تمثل شريانا تجاريا هاما للكثير من الدول والبضائع وما شابه، ففي عام 2011 فرضت حركة الشباب سيطرتها على موانئ كل من “كيسمايو” و”مقديشو” ومعها بدأت الحركة تنتبه لأهمية وجدوى الملاحة البحرية وخطورتها في آن معا، وعلى الرغم من فقدانها السيطرة المباشرة على هذه الموانئ الاستراتيجية، إلا أنها وجدت مع الوقت طرقًا مبتكرة لإعادة اختراع أنشطتها في مقديشو والحفاظ على وجودها البحري.
فيما تعتمد الأنشطة البحرية لحركة الشباب، على الاتصالات المباشرة مع شبكات المهربين والقراصنة، نظرا لخبرتهم في هذا المجال، وهو ما دفعهم إلى نسج علاقة براجماتية وظيفية مع زعيم قراصنة صومالي يُعرف باسم “Garfanje” يقوم بتقديم قواربه للحركة في مقابل الحصول على الأموال، فضلا عن استئجارها من قبلهم لشراء وتهريب الأسلحة عبر الطرق البحرية المختلفة.
ومع الوقت نجحت الحركة في إنشاء نظام متطور من خلال الاتصالات المباشرة بميناء “مقديشو” الذي يعد أكبر ميناء في الصومال، ونظرا لوعيها بصعوبة إحكام سيطرتها الكاملة على الميناء وضراوته عمدت إلى التسلل والتحرك صوب وكلاء الشحن التجاريين، فضلا عن مؤسسات الموانئ، تخضعهم لتهديدها من جهة، وتحصل على معلومات تفيد حركة سير البضائع وماهيتها، لتفرض هي بعد ذلك ضريبتها بحكم قدرتها على الإغارة وإخضاع الميناء من آن لآخر لسلطتها، ووضعه تحت تهديدها الدائم.
وتضع الحركة نسبا ومقدرات مالية محددة تفرض على الشركات، بحيث تتوزع ما بين 100 دولار أمريكي لكل حاوية 20 قدمًا و160 دولارًا أمريكيًا للحاويات 40 قدمًا، إضافة إلى تنوع الأنشطة الأخرى مثل تهريب المخدرات والأسلحة والبشر، والحبوب والمنسوجات، ما جعلها تتحصل إزاء ذلك كله على ما يقرب من سبعة ملايين دولار أمريكي سنويًا من خلال هذه الأنشطة البحرية.
في موازاة ذلك وفي سياق الأنشطة العسكرية، أظهر هجوم بحري لحركة الشباب الصومالية عام 2016 في “بونتلاند” قدرتها على الإبحار رغم فشل المحاولة في تحقيق نجاح على مستوى كبير، فيما تفيد بعض التقارير أن النشاط البحري للحركة ساهم في زيادة وتيرة العمليات العسكرية لحركة الشباب بنسبة اقتربت من الـ32 بالمائة في عدد الهجمات بالعبوات الناسفة التي نفذتها في الفترة الممتدة ما بين (يوليو / تموز 2018 ويوليو / تموز 2019).
حتى اللحظة لا يمكن القول إن الحركة تمتلك أسطولا بحريا أو أنها قامت بعمل عسكري بحري يعلن عن ميلاده، إلا أن ما يمكن قوله وتفسيره هو أن الحركة حذرة من الوقوع في خطأ أو زلة استراتيجية وهي التي لا تملك ما يؤهلها للمواجهة المتكافئة مع القوى الحكومية والأساطيل البحرية العسكرية للقوى الأمنية الأفريقية والغربية على حد سواء، ما يجعلها تقتصر على استخدام الأنشطة البحرية العسكرية كعامل مساعد وليس رئيسيا في المواجهة العسكرية من حيث تعدد الآليات والأنشطة إضافة إلى توظيفها لخدمة التمويل وتعدد مصادره.
داعش الصومال
تعمل داعش بنسختها الصومالية في المناطق الساحلية الصومالية والتنزانية، مزاحمة في ذلك حركة الشباب القاعدية، ورغم ضعف داعش مقارنة بحركة الشباب إلا أنها تحاول أن توسع دائرة تمركزها هنالك خاصة في المناطق الساحلية، ويبدو أن لدى داعش الصومال فهما للواقع العملياتي البحري بشكل أكبر من حركة الشباب، في غضون عام من تأسيسه، احتل تنظيم الدولة الإسلامية في الصومال وسيطر على مدينة قندلة الساحلية الشمالية.
يتضح بعد ذلك أن الهدف من تفعيل النشاط البحري لتنظيم داعش في الصومال هو ربط أبناء التنظيم في الصومال بأشقائه في اليمن، بحيث تضمن بذلك سهولة حركة نقل وتهريب الأسلحة والأموال وغيرها، خاصة المقاتلين من الموارد المختلفة ما بينهما، وساهم سهولة الانتقال في أن يقوم مجاهدو داعش التابعون للتنظيم في اليمن بتدريب مقاتلي داعش في الصومال، بعد انتقال قيادات وكوارد معروف عنها الخبرة القتالية العالية، ما كان له واقع الأثر في التطور اللافت لداعش الصومال وسرعة تحولاتها هنالك، فضلا عن قدرتها على مواجهة القوات الحكومية والقاعدة في آن معا.
وكان ميناء “قندلة” في الشمال الشرقي بالصومال مسرحا تجريبيا لأنشطته البحرية، إلا أنه ما لبث وأن طرد منها ولكنها كانت دليلا على رؤيته لأهمية تفعيل العمل العسكري البحري لتنظيمه، حيث تسمح الموانئ الصغيرة ومواقع الإنزال المنتشرة على ساحل الصومال ومن خلال التعاون مع شبكات التهريب وعقد اتفاقيات مع السكان المحليين على ترسيخ وجودهم في السواحل الصومالية وربطها باليمن كما عرضنا سابقا ما يحقق لها الوصول المستمر لمواردها ومصادر تمويلها المختلفة.
أنصار السنة الداعشية في موزمبيق
منذ تشكل جماعة أنصار السنة أو حركة الشباب في موزمبيق كجماعة متشددة منذ عام 2007 إلى 2017 وبعدها بقليل، ولم يلتفتوا إلى ممارسة الأنشطة العسكرية البحرية، ومع تحولهم نحو الولاء والتبعية لتنظيم داعش ومنذ عام 2020 وتم التركيز على تلك العمليات العسكرية ذات النشاط العسكري، حتى باتت مكونا أساسيا في النهج الاستراتيجي للمجموعة، من خلال مداهمة القرى الصغيرة الساحلية والانطلاق منها نحو عواصم المناطق.
ويمكن ملاحظة ذلك بقوة في الهجوم الذي نفذته الحركة في مقاطعة كابو ديلجادو على الساحل الشمالي الشرقي لموزمبيق وتحديدا بلدة “موسيمبوا دا برايا” Mocímboa da Praia التي تتمتع بثروتها الكبيرة من الموارد الطبيعية، حيث استخدمت أنصار السنة في هجومها العسكري البحر بجوار تحركها على الأرض وذلك في وقت واحد، ما أدى إلى اجتياح قوات الأمن والسماح للمجموعة باحتلال الميناء لعدة ساعات، وقد باءت محاولات الحكومة لتحرير الميناء بالفشل، وظل جزئيًا تحت سيطرة المتمردين.
كشفت الهجمات التي قامت بها داعش في موزمبيق بشكل خاص تطورا ملحوظا في التقنيات الآلياتية للنشاط العسكري البحري للتنظيمات الجهادية، وذلك من حيث التخطيط الاستراتيجي والتكتيكات المتقدمة وتنوع الأساليب التي تناسب قدراتهم في هذا المجال العسكري الجديد، إذ أن الربط بين الجزر ورسم ملامح لطرق خاصة في البحر يسير خلالها التنظيم بشكل آمن، وتهيئة البحر فيما يشبه تعبيد الطرق على الأرض، لتيسير حركة التهريب بتنويعاتها المختلفة يدلل على أن ثمة تطورا آخذ في الصعود في هذا النشاط العسكري البحري، واللافت حتى اللحظة، وبخلاف حركة الشباب الصومالية، تركزت أنشطة داعش البحرية على النشاط العسكري ولم تذهب إلى تنويع أنشطتها كالتهريب ونقل الأموال والتعامل مع القراصنة وفرض الضرائب وما شابه، إلا أن ذلك لا يمنع تحقق ذلك مستقبلا.
بنين.. الوجهة الساحلية القادمة
تعد “بنين” واحدة من أصغر البلدان في غرب أفريقيا، إذ يحدّها من الشرق دولة نيجيريا، ومن الشمال دولة النيجر وبوركينا فاسو، ومن الغرب دولة توغو، ومن الجنوب خليج بنين وعاصمتها “بورتو نوفو”، والمرشحة بقوة بأن تمثل نقطة جاذبة للأنشطة الجهادية البحرية خاصة مع تدحرج الوجود الجهادى في دول منطقة الساحل والصحراء وتعاظمه في كل من مالي، النيجر وبوركينا فاسو، إذ تواصل الجماعات الجهادية زحفها من منطقة الساحل إلى البلدان الساحلية المجاورة لها وتعتبر البلدان الساحلية المجاورة أرضية خصبة لهذا التوسع، خاصة وأنها تمنح هذه الجماعات فرصاً جيدة –كما أوضحنا سابقا – لاستغلال الطرق التجارية ماليا، فضلا عن إتاحته للتوسع في إمكانية شن هجمات موسَّعة على أهداف سهلة مثل المنتجعات الساحلية والتي يفد إليها السياح الغربيون على غرار ما حدث من الهجوم على منتجع “جراند بسام” الشاطئي في آذار/مارس 2016 في كوت ديفوار، الذى راح ضحيته 16 شخصاً.
موجز القول يمكن الإشارة إلى أننا في الطور التكوينى الأول لتدشين مايعرف بالسلاح العسكرى ضمن إطار الأنشطة البحرية للتنظيمات الجهادية، معتمدة على الإرهاصات القديمة للظاهرة والتجارب السابقة عليها وساعية في ذات الوقت نحو تحديثها وتطويرها وتشكيلها بما يتوائم جغرافيات المشهد الساحلي الأفريقي.
في موازاة ذلك يظل الهدف الاقتصادي وتيسير حركة مرور المقاتلين والموارد المالية عبر التهريب ونسج شبكة علاقات وظيفية براجماتية مع القراصنة المرحلة التي تسبق الوجود العسكرى البحري في اللحظة الراهنة، ولا ينفى ذلك إمكانية حدوث تحولات هامة في هذا السياق تقدم العسكري على الاقتصادي خاصة على يد تنظيم داعش، وربما يكون مشهد سقوط مدينة بالما الساحلية في موزمبيق مؤشرا دلاليا على احتمالية حدوثه في المستقبل القريب.
المصدر:
https://zatmasr.com/