الشيخة حسينة.. وتجريف الهوية في بنجلاديش
الاربعاء 16 محرم 1432 الموافق 22 ديسمبر 2010
الشيخة حسينة.. وتجريف الهوية في بنجلاديش
الإسلام اليوم/ خاص
لعلَّ من يتتبَّع الأوضاع في بنجلاديش خلال عامين من حكم زعيمة رابطة عوامي الشيخة حسينة واجد يشعر أن البلاد مقدمة على أزمة شديدة نتيجة حالة الاستقطاب القصوى بين الفرقاء السياسيين وتبنِّي الحكومة الحالية نهجًا إقصائيًّا ضد أغلب ألوان الطيف السياسي والديني في واحدة من أكبر البلدان الإسلامية من حيث عدد السكان.
وفي ظل الإجراءات القسريَّة التي تتبناها ضد الدستور في محاولة منها لتجريف الهوية الإسلامية للبلاد حظرت قيام أي أحزاب دينية وإلغاء أي مصطلح إسلامي منه، مما أدى لحظر عشرات من الأحزاب الإسلاميَّة وفي مقدمتها الجماعة الإسلامية -ثالث أكبر حزب سياسي في البلاد.
ولم تكتفِ حسينة بذلك بل شنت حملة اعتقالات شديدة في صفوف خصومها السياسيين، وفي المقدمة منها الإسلاميون والعسكريون على خلفيَّة معارضتهم لسعيها لعلمنة البلاد وإعادة العمل بدستور عام 1972 والذي صيغ إبان حكم والدها وهيمنة الشيوعيين والعلمانيين على حكم البلاد بعد انفصالِها عن باكستان، ودخلت في مواجهات شرسة مع حزب المعارضة الرئيسي "الوطني "بزعامة خالدة ضياء، عبر شن حملة اعتقالات في صفوف منتسبيه والعمل على فتح ملفات قياداتِه وتلفيق تُهم بالفساد لأنصاره، نهايةً باستصدار حكم من المحكمة العليا الموالية لها بطرد زعيمة الحزب ورئيسة الوزراء السابقة من نزل حكومي مخصص لها منذ عشرات السنين.
نزعة انتقاميَّة
وهيمنَ الطابع الثأري على سبل إدارة الشيخ حسينة لشئون البلاد، وبرز الطابع الانتقامي في تصفية حساباتها على من تعتقد أنهم قتلة أبيها الشيخ مجيب الرحمن، أو ما يُطلق عليه البانجو باندو أو "أبو البنجال" بعد انقلاب عسكري دموي قاده الجنرال ضياء الرحمن عام 1975 إذا خالفت جميع القوانين وانتزعت أحكامًا بالإعدام تم تنفيذها على عشرات من العسكريين المتورطين في قتله وتصفية أسرتها، رغم تجاوز أعمار أغلبهم العقد الثامن، وأمعنت في إزالة جميع المظاهر الإسلاميَّة من الدستور البنجالي، وفي مقدمتها نصّ البسملة وبنود تتحدث عن المرجعيَّة الإسلاميَّة للبلاد.
وتجاوزت زعيمة حزب رابطة عوامي جميع الأعراف داخل البلاد بالدخول في مواجهة مع الجميع، ومن بينهم القوى الإسلاميَّة باعتقال عشرات من زعمائها، وفي الطليعة منهم مطيع الرحمن نظامي زعيم الجماعة الإسلاميَّة وتقديمه للمحكمة، وتكرَّر الأمر ذاته مع عشرات من أبرز رموزها، كأن حسينة تأخذ ثأرها من الإسلاميين الذين كانوا في مقدمة ركب المناوئين لرغبة والدها في الانفصال عن باكستان، وتابعت ذلك بإغلاق عشرات من المدارس الدينيَّة باعتبارها تشكلُ مقارًّا لتفريغ جماعات متطرفة وإرهابيَّة بحسب وجهة النظر الحكومية، بل وواصلت الشوط إلى آخره بحظر حزب التحرير وحركة الجهاد الإسلامي؛ لتورطهما في دعم مجاهدي كشمير المناوئين للهند، التي تعتبرها زعيمة عوامي أهم حلفائها.
أجواء مضطربة
وقد خلَّفت إجراءات الشيخة حسينة الإقصائيَّة داخل البلاد أجواء مضطربة بدت بشائرها في تنظيم أحزاب المعارضة والقوى العماليَّة إضرابات متتالية في العاصمة دكا وميناء تشيتاجونج وغيرها من المدن، مما أصاب البلاد بالشلل، اعتراضًا منهم على التعديلات الدستوريَّة وعلى تردِّي الأوضاع الاقتصاديَّة وعجز الحكومة على تبنِّي إجراءات تستطيع إخراج البلاد من عثرتها، ناهيك عن الغضب الشديد إزاء التحالف المشبوه بين حزب رابطة عوامي والهند، والتي نجحت الأخيرة بموجبه في اختراق الساحة البنغاليَّة على كافة الأصعدة، منها الاقتصادية عبر تحول شركة "تاتا" الهندية إلى أكبر ذراع استثماري في البلاد بعد إتمام سيطرتها علي ميناء شيتاجونج مع بقاء السيادة الاسميَّة لبنجلاديش عليه بزعم ضخِّها استثماراتٍ ضخمة في التنقيب عن النفط في خليج البنغال.
وسارعت نيودلهي الخطى بمحاولة السيطرة كذلك على كافة مفاصل البلاد الثقافية والإعلاميَّة عبر عددٍ كبير من القنوات الفضائيَّة الهنديَّة الساعية بقوَّة لتذويب الهويَّة الإسلاميَّة والمنظومة الأخلاقيَّة للشعب بما تبثُّه من برامج مشبوهة فضلا عن تأسيس مئات من الجمعيات "الخيريَّة" الهندية لاستغلال أية كارثة تلحق بالبلاد لاكتساب أرضية جديدة كل يوم بضوء أخضر من قبل الحكومة بالتوازي مع تورط مئات من المنظمات التنصيريَّة العاملة في طول البلاد وعرضها في ممارسات تهدف لنشر ثقافة الردة عن الإسلام وإغراء ملايين البنغال باعتناق الكاثوليكية تحت وطأة الأوضاع الاقتصادي المزرية.
مدّ هندوسي-تنصيري
وفي الوقت الذي تتمتع المنظمات التنصيريَّة بحريَّة غير مسبوقة في العمل في الساحة البنجاليَّة فإن حكومة الشيخة حسينة تتعامل بنهجٍ معادٍ مع جميع المنظمات الإسلاميَّة، فقد ضيقت الخناق على العشرات منها، سواء المحليَّة أو القادمة من بلدان عربية مما أجبر بعضها على مغادرة البلاد، وفرضت إجراءات أثارت استياء الجميع بحظر كتاب الأمام أبو الأعلى المودودي في جميع مكاتب البلاد بحجة "مكافحة الإرهاب" رغم أن هذه الكتب تتواجد في طول البلاد وعرضها منذ عقود دون أن يثير أحد هذه الاتّهامات التي تعكس رغبة الشيخة في تجفيف منابع الهوية الإسلاميَّة لبنجلاديش علَّها تنالُ رضا واشنطن ونيودلهي ومعه مليارات الدولارات من المعونات والاستثمارات القادرة على انتشال الاقتصاد من النفق المظلم.
تقارب حكومة حزب رابطة عوامي مع الهند تزامن كذلك مع تصاعد التوتر مع باكستان ودخول علاقات البلدين النفق المظلم فإسلام أباد لا تخفي ضيقها الشديد من غضّ حكومة دكا الطرف عن تنامي النفوذ الهندي، بل وإبرامها مشاريع مائيَّة ونفطيَّة مع نيودلهي تضر بشدة بمصالحها والدخول في اتفاقات أمنية أسهمت في تخفيف الضغوط على الهند في إقليمي كشمير وأسام، بل إن تقارير استخباراتيَّة باكستانيَّة أكَّدت أنها تراقب الأوضاع في بنجلاديش عن كثب لمحاصرة مخاطر التحالف الهندي مع زعيمة رابطة عوامي علي أمن واستقرار باكستان.
ويزيد من وطأة الموقف أن تدهور العلاقات بين بنجلاديش وباكستان توافق مع دخول العلاقات بين بنجلاديش العالم العربي في حالة برود غير مسبوقة حيث لم تضع حكومة حزب رابطة عوامي ضمن أولوياتها تطوير علاقاتها العربية وهو أمر ينسجم مع ثوابت الحزب وزعيمته الداعمة لعلاقات أوثق مع جارتها الكبرى الهند، فانقطعت زيارات كبار المسئولين البنجال إلى دول المنطقة بعد سنوات من علاقات وثيقة بين الطرفين خلال حكم الحزب الوطني بزعامة البيجوم خالدة ضياء، وهو تردٍّ مرشح للتصاعد حال استمرار الشيخة في الحكم..
حرب بالوكالة
ومن البديهي الإشارة إلى أن الإجراءات التي تبنَّتْها حكومة بنجلاديش الحالية بعد التعديلات الدستوريَّة والتصادم مع أحزاب المعارضة والقوى الإسلاميَّة بعد علمنة الدستور وإزالة أي ملامح إسلاميَّة منه وحظر الأحزاب الدينيَّة والدخول في مواجهات دامية مع بعضها بذريعة محاربة الإرهاب لا تخدم مصالح البلاد، خصوصًا أن هذه القوى لم تتورطْ في عمليَّات تضرُّ بالأمن، مما يفتح الباب أمام صراع بين الفُرَقاء قد يتطور لحرب أهلية تعيد رسم وتكرار سيناريو طالبان باكستان في البلاد، لا سيَّما أن القوى الإسلاميَّة التي عانت من الحظر على يد الحكومة الحالية ومنها حركة الجهاد الإسلامي وحزب التحرير، فضلًا عن جماعات أخرى طالتها نفس الإجراءات تستطيع القيام بحركات وعمليات تقضُّ مضاجع الحكومة بشكل قد يدفعها للرد بإجراءات أكثر شراسةً قد تشعل الصراع بين تيار يدفع في إطار تنمية الروابط مع الهند، وآخر يسعى للحفاظ على هوية البلاد الدينية وتقوية وشائج الصلات مع العالم الإسلامي.
فوضى
وسيزيد من احتمالات المواجهة تصميم رئيسة الوزراء على الاستمرار إلى نهاية الشوط مع حلفائها الهنود وفتح أبواب البلاد علي مصراعيها أمامهم رغم أن الغالبية الساحقة من البنجاليين يعتبرون نيودلهي عدوهم اللدود الواجب منازلتها لتخليص كشمير من بين فكيها، وليس منحها امتيازات سياسيَّة وأمنيَّة واقتصادية، والعمل كشرطي لها ضد المقاتلين الكشميريين ومن يدعمونهم داخليًّا في وقتٍ لا تُبدي الشيخة حسينة أي استعدادات لإقامة علاقات جيدة مع باكستان، مما يستفزّ الحزب الوطني المعارض ومعه القوى الإسلاميَّة الداعمان بقوة للتقارب مع إسلام أباد وهو ما قد يجر البلاد لفوضى بشكلٍ قد يدفع الجيش للتدخل عبر انقلاب عسكري يعيد سيناريو انقلاب ضياء الرحمن للواجهة ويتولى رسم الخريطة السياسيَّة والأمنيَّة للبلاد مجددًا.
مقامرة
وطبقًا للمعطيات السابقة فإن حكومة الشيخة حسينة تقامر حين تصرُّ على الدخول في مواجهة مع التيارات والأحزاب الإسلاميَّة وحتى القوى الوطنيَّة الرافضة لارتمائها في أحضان الهند وتحويل البلاد لتابع لنيودلهي مما يهدِّد بانفجار الأوضاع في البلاد واندلاع حرب أهليَّة تكرّر السيناريو الأفغاني والباكستاني، مما سيعطي الفرصة لقوى راديكاليَّة إسلاميَّة، سواءٌ في الداخل أو في دول الجوار للانتقال لجبهة جديدة تخفف الضغوط المفروضة عليها من الأمريكان والناتو في أفغانستان وباكستان المجاورتين مما يقود أمن واستقرار البلاد إلى المحكّ.
وفي النهاية تبقى كلمة مفادها أن بنجلاديش مقبلة على مسارين لا ثالث لهما الأول يتمثَّل في اشتعال حرب أهلية بين الفُرقاء تعيد للأذهان المواجهة بين إسلام أباد وطالبان باكستان مما يحمل تحديا خطيرا لوحدة واستقرار البلاد، فيما لا يستبعد دخول الجيش على خطّ الأزمة وإعادة الحكم العسكري لمنع انفجار البلاد وبين هذين المسارين تبدو الساحة البنجاليَّة حبلى بصراعاتٍ ومواجهاتٍ يصعب التكهن بنتائجها.
http://islamtoday.net/albasheer/artshow-13-143533.htm