(2)
الصُّوَرُ الْـمُحَقِّقَةُ لِـمَفْهُومِ الدَّوْلَةِ الدِّينِيَّةِ
يمكنُ تلخيصُ النظرياتِ التي تُبْنَى عليهَا الدولةُ الدينيَّةُ «الثِّيُوقْرَاطِيَّةُ» عمومًا إلى ثَلَاثِ نظرياتٍ : ـ نظريَّةُ «الطبيعةِ الإلهيَّةِ للحاكمِ» : هذه النظريَّةُ تقولُ : «إنَّ اللهَ موجودٌ على الأرضِ يعيشُ وسطَ البشرِ ويحكمُهُمْ ، ويجبُ علىالأفرادِ تقديسَ الحاكمِ ، وعدمَ إِبْدَاءِ أَيِّ اعْتِرَاضٍ» . هذه النظريَّةُ كانت سائدةً في المماليكِالفرعونيَّةِ ، والإمبراطورياتِ القديمةِ ، وبعضِ مراحلِ الدولةِ الفاطميَّةِ .
[انْظُرِ : «الأنظمةُ السياسيَّةُ المعاصرةُ» للدكتورِ يحيَى الجملِ (ص/58)] .
ـ نظريَّةُ «الحقِّ الإلهيِّ المباشرِ» : هذه النظريَّةُ تقولُ : «إنَّ الحاكمَ يُخْتَارُ وبشكلٍ مباشرٍ مِنَ اللهِ» ، أَيْ : إِنَّ الاختيارَ بعيدًا عَنْ إرادةِالأفرادِ ، وأَنَّهُ أمرٌ إلهيٌّ خارجٌ عن إرادتِهِمْ تَمْتَازُ بِـ : 1 ـ لَا تجعلِالْحاكمَ إِلَهًا يُعْبَدُ . 2 ـ الحُكَّامُ يستمدونَ سلطانَهُمْ مِنَ اللهِ مباشرةً . 3 ـ لَا يجوزُ للأفرادِ مسألةَ الحاكمِ عن أيِّ شيءٍ . وهذه النظريَّةُ هي التي تبنتْهَا الكنيسةُ في فترةِ صراعِهَا مع السُّلطةِ الزمنيَّةِ ، كمَا استخدمَهَا بعضُ ملوكِ أوروبَا ـ خاصَّةً فرنسا ـ ؛ لتدعيمِ سُلطانَهُمْ على الشعبِ .
[«النُّظُمُ السِّياسيَّةُ» للدكتورِ ثروت بدوي (1/6)] .
ـ نظريَّةُ «الحقِّ الإلهيِّ غيرِ المباشرِ» : الحاكمُ مِنَ البشرِ ، لكنْ في هذه النَّظريَّةِيقومُ اللهُ باختيارِ الحاكمِ بطريقةٍ غيرِ مباشرةٍ ، حيثُ يقومُ مجموعةٌ مِنَ الأفرادِباختيارِ الحاكمِ ، وتكونُ هذه المجموعةُ مُسَيَّرَةٌ لا مُخَيَّرَةٌ في اختيارِ الحاكمِ ـ أَيْ : مُسَيَّرَةٌ مِنَاللهِ ـ . [«النُّظُمُ السِّياسيَّةُ» لمحسن خليل (ص/20)] . وسنعرضُ لصورَتَيْ : «دولَةِ الكنيسةِ ، والحقِّ الإلهيِّ الملكيِّ» ؛ لأنَّهُمَا بالدرجةِ الأُولى هُمَا المؤثرتَيْنِ في نشأةِ مفهومِ «الدولةِ المدنيَّةِ» .
·الصُّورَةُ الأُولَى مِنْ صُوَرِ الدَّوْلَةِ الدِّينِيَّةِ : «دَوْلَةُ الْكَنِيسَةِ»
«لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلَاطِينِ الْعَالِيَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَا سُلْطَانَ إِلَّا مِنَ اللهِ ، وَالسَّلَاطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ * حَتَّى إِنَّ مَنْ يُقَاوِمُ السُّلْطَانَ يُقَاوِمُ تَرْتِيبَ اللهِ ، وَالْـمُقَاوِمُونَ يَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً * لِأَنَّ الرُّؤَسَاءَ لَيْسُوا خَوْفًا لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، بَلْ لِلشِّرِّيرَةِ ، أَفَتَبْتَغِي أَلَّا تَخَافَ مِنَ السُّلْطَانِ ؟ افْعَلِ الْخَيْرَ فَيَكُونُ لَكَ مَدْحٌ مِنْهُ * لِأَنَّهُ خَادِمُ اللهِ لَكَ لِلصَّلَاحِ ! وَلَكِنْ إِنْ فَعَلْتَ الشَّرَّ فَخَفْ ؛ فَإِنَّهُ لَـمْ يَتَقَلَّدِ السَّيْفَ عَبَثًا ؛ لِأَنَّهُ خَادِمُ اللهِ مُنْتَقِمٌ لِلْغَضَبِ مِنَ الَّذِي يَفْعَلُ الشَّرَّ * لِذَلِكَ يَلْزَمُ أَنْ يُخْضَعَ لَهُ لَيْسَ بِسَبَبِ الْغَضَبِ فَقَطْ ، بَلْ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ الضَّمِيرِ * فَإِنَّكُمْ لِأَجْلِ هَذَا تُوَفُّونَ الْجِزْيَةَ أَيْضًا ؛ إِذْ هُمْ خُدَّامُ اللهِ مُوَاظِبُونَ عَلَى ذَلِكَ بِعَيْنِهِ * فَأَعْطُوا الْجَمِيعَ حُقُوقَهُمْ : الْجِزْيَةُ لِـمَنْ لَهُ الْجِزْيَةُ ، وَالْجِبَايَةُ لِـمَنْ لَهُ الْجِبَايَةُ ، وَالْـمَهَابَةُ لِـمَنْ لَهُ الْـمَهَابَةُ ، وَالْكَرَامَةُ لِـمَنْ لَهُ الْكَرَامَةُ * لَا تَكُونُوا مَدْيُونِينَ لِأَحَدٍ بِشَيْءٍ إِلَّا بِأَنْ يُحِبَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا؛ فَإِنَّهُ مَنْ أَحَبَّ قَرِيبَهُ فَقَدْ أَكْمَلَ النَّامُوسَ * لِأَنَّ «لَا تَزْنِ ، لَا تَقْتُلْ ، لَا تَسْرِقْ ، لَا تَشْهَدْ بِالزُّورِ ، لَا تَشْتَهِ» ، وَإِنْ كَانَتْ وَصِيَّةً أُخْرَي إِنَّمَا هِيَ مُتَضَمِّنَةٌ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ : «أَنْ تُحِبَّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ» * إِنَّ الْـمَحَبَّةَ لَا تَصْنَعُ شَرًّا بِالْقَرِيبِ ، فَالْـمَحَبَّةُ إِذًا تَكْمِيلُ النَّامُوسِ * هَذَا ؛ وَإِنَّكُمْ عَارِفُونَ الْوَقْتَ أَنَّهَا الْآنَ سَاعَةٌ لِنَسْتَيْقِظَ مِنَ النَّوْمِ ؛ لِأَنَّ خَلَاصَنَا الْآنَ أَقْرَبُ مِمَّا كَانَ حِينَ آمَنَّا * قَدْ تَنَاهَى اللَّيْلُ ، وَاقْتَرَبَ النَّهَارُ ؛ فَلْنَخْلَعْ عَنَّا أَعْمَالَ الظُّلْمَةِ ، وَنَلْبَسْ أَسْلِحَةَ النُّورِ * لِنَسْلُكْ بِلِيَاقَةٍ كَمَا فِي النَّهَارِ ، لَا بِالْبَطَرِ وَالسُّكْرِ ، لَا بِالْـمَضَاجِعِ وَالْعَهَرِ ، لَا بِالْخِصَامِ وَالْحَسَدِ * بَلِ الْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ الْـمَسِيحَ ، وَلَا تَهْتَمُّوا بِالْجَسَدِ لِلشَّهَوَاتِ ، نِعْمَةُ اللهِ الْآبِ». [العهد الجديد ـ «الرسالة لأهل رومية» : (13/1 ـ 14)] . هذا هو ما كتبَهُ القديسُ بولسُ في رسالتِهِ لأهلِ روميَّةَ ، وهذا هو النَّصُّ الأهمُّ في تاريخِ الجدلِ السِّياسِيِّ حولَ الدولةِ الدينيَّةِ ، وموقفُ الكنيسةِ والسِّياسيينَ وفهمُهُمْ لهذا النَّصِّ عبرَ المراحلِ التاريخيَّةِ هو ما شكَّلَ المفاهيمَ المتعددَةَ للدولةِ الدينيَّةِ ، وسنبدأُ من هذا النَّصِّ مُهملينَ النصوصَ المتصلةَ بمحلِ البحثِ ، والتي وردتْ في العهدِ القديمِ ، والتي كانَ لها أثرٌ ـ ولا شكَّ ـ في تشكيلِ مفهومِ الدولةِ الدينيَّةِ ، ولكنْ لضيقِ المقامِ سنضطرُّ لإرجاءِ النَّظَرِ فيها الآنَ .
الطَّوْرُ الْأَوَّلُ لِـمَوْقِفِ الْكَنِيسَةِ مِنَ الدَّوْلَةِ : «ثُمَّ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ ـ أي : للمسيحِ عليهِ السَّلامُ ـ قَوْمًا مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالْهِيرُودُسِيِّينَ ؛ لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكَلِمَةٍ ، فَلَمَّا جَاءُوا قَالُوا لَهُ : «يَا مُعَلِّمُ نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَلاَ تُبَالِي بِأَحَدٍ ؛ لأَنَّكَ لاَ تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ ، بَلْ بِالْحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيقَ اللهِ ، أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ ، أَمْ لاَ ؟ نُعْطِي ، أَمْ لاَ نُعْطِي ؟»، فَعَلِمَ رِيَاءَهُمْ ، وَقَالَ لَـهُمْ : «لِـمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي ؟ إِيتُونِي بِدِينَارٍ لأَنْظُرَهُ»، فَأَتَوْا بِهِ ، فَقَالَ لَـهُمْ : «لِـمَنْ هَذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ ؟» ، فَقَالُوا لَهُ : «لِقَيْصَرَ» ، فَأَجَابَ يَسُوعُ : «أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلهِ لِلهِ» ؛ فَتَعَجَّبُوا مِنْهُ » .
[«مرقس» : (12/13 ـ 17)]
هكذَا يرَى النَّصَارَى موقفَ المسيحِ ـ عليهِ السَّلامُ ـ مِنَ الدَّولةِ، ومرَّ علَى هذا النَّصِّ ـ إنْ كانَ المسيحُ قد قالَهُ ـ ثلاثمائةُ عامٍ، وَلَـمْ يتغيَّرْ موقفُ الكنيسةِ، وها هو الأسقفُ القرطبيُّ «هوسيوس» يكتبُ إلَى الإمبراطورِ الرومانيِّ «قسطنطيوس»: «اللهُ وضعَ في يدكَ هذه المملكةَ، وإلينَا سلَّمَ أمورَ الكنيسةِ ، مكتوبٌ : «أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ» .. إِذَنْ ليسَ مِنْ حقِّنَا أنْ نُمارسَ أُمورَ الدُّنيَا .. وليسَ من حقِّكَ أيُّهَا الأميرُ أنْ تحرقَ البخورَ» . إلى هنا فالتفسيرُ الكنسيُّ لنصِّ بولسَ السَّابقِ ينحصرُ في احترامِ قيصرَ ، وفصلِ العلاقةِ بينَ «الرُّوحِيِّ» الدِّينِ و«الزَّمَنِيِّ» الدَّوْلَةِ ، وناسبَ هذا تمامًا سياسةَ أباطرةَ الرُّومانِ ، كيفَ لَا، وقد تعدتِ الْكنيسةُ مرحلةَ الِاحْترامِ إلى جعلِهَا الإمبراطورَ هو الأسقفُ الأعلَى ، وأنَّهُ إنسانٌ مقدسٌ اختِيرَ مِنَ اللهِ ليكونَ مُمَثِّلًا له على الأرضِ ، ليختلطَ مَا لقيصرَ ومَا للهِ باعتبارٍ آخرَ يقومُ على إعطاءِ حقوقٍ وصفاتٍ دينيةٍ للحاكمِ .
[انظُرِ : «العالَـمُ البيزنطِيُّ» لهسي (ص/230»)] .
ـ الطَّوْرُ الثَّانِي : «وَأَنَا أَقُولُ لَكَ أَيْضًا : أَنْتَ بُطْرُسُ ، وَعَلَى هَذِهِ الصَّخْرَةِ ابْنِي كَنِيسَتِي ، وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا * وَأُعْطِيكَ مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ ، فَكُلُّ مَا تَرْبِطُهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطاً فِي السَّمَاوَاتِ ، وَكُلُّ مَا تَحُلُّهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي السَّمَاوَاتِ» .
[«متى : 16(/18 ـ 19)] .
لاعتباراتٍ تاريخيَّةٍ لا محلَّ لبسطِهَا هنا بدأتِ الْعلاقَةُ بينَ الكنيسةِ والدولةِ في اتِّخاذِ مُنْحَنًى آخرَ قَوِيَتْ فيه شوكةُ الكنيسةِ ، وضعفتْ شوكةُ الدولةِ بالمقابلِ ، وفي أواخرِ القرنِ الخامسِ رأينَا الأبَ «جلازيوس» يخاطِبُ الإمبراطورَ «انسطاسيوس الأولَ» قَائِلًا : «ومعَ أنَّ مكانتكَ مرموقَةً أيُّهَا الإمبراطورُ ؛ فإِنَّ أحدًا لَا يمكنُ أن يعلوَ بنفسهِ ، بأساليبَ بشريَّةٍ ، ليقاربَ تلكَ المكانةَ السَّاميةَ للذِي خاطبَهُ صوتُ المسيحِ وفضلَّهُ على الآخرينَ .. إِنَّ الأمورَ الَّتِي أقرَّتْهَا الإرادةُ السَّمَاوِيَّةُ ، لَا يمكنُ أن تُنتهكَ بعجرفَةِ بني البشرِ ، ولا يمكنُ أن تُمحى بأيِّ سلطةٍ» . وظلتْ الكفَّةُ تميلُ إلى ناحيةِ الكنيسةِ قرنًا من بعدِ قرنٍ حتَّى لم يأتِ الْقرنُ الحادي عشرَ إلَّا وقد طاشتْ كفَّةُ الدولةِ لصالحِ كفَّةِ الكنيسةِ ، ولنقرأْ خطابَ الأبِ «جريجوري السابعِ» (1085) ، وهوَ يخاطبُ رجالَ الدِّينِ مُستعيدًا نصَّ العهدِ الجديدِ الذي صدَّرْنَا بِهِ بقولِهِ : «ألَا فليُدْرِكِ الْعالَـمُ أجمعُ أنَّهُ إن كانَ بمقدورِكُمُ الرَّبْطُ والحلُّ في السَّماءِ ؛ فإنَّكُمْ على الأرضِ قادرونَ على أن تُعطوا الْـمُلْكَ من تشاءُونَ ، وتنزعُونَهُ مِمَّنْ تشاءُونَ في الإمبراطورياتِ والممالكِ .. بَلْ إنْ شئتُمْ : في كلِّ ما يمتلكُهُ البشرُ». وأَخَذَتِ الْبابويَّةُ تظهرُ علَى الساحةِ الدوليَّةِ ككِيَانٍ سياسيٍّ ، تعقدُ التحالفاتِ ، والمهادناتِ ، وتُمَكِّنَ لنفسهَا فِي الأرضِ ، وبدأتْ وقائعُ الحرمانِ الكنسيِّ للملوكِ والأمراءِ ، وسيطرتُ الكنيسةِ على مقاليدِ الدولةِ تمامًا ، وحملتْ رايةَ الحروبِ الصليبيَّةِ ، وظلتْ تنتصرُ في معركةٍ تلوَ الأخرَى من معاركِهَا معَ الدولةِ حتَّى بسطَتِ الْكنيسةُ رايتَهَا على جميعِ دُولِ أوروبَّا في حكومةٍ قوامُهَا الكهنةُ والأساقفةُ والكرادلَةُ ، ويرأسُهَا بابا الكنيسةِ . لتُشكلَّ بهذا النموذجِ الأشهرِ لدولةٍ دينيَّةٍ تمثلتْ أبرزُ معالِـمِهَا في سيطرةِ البابا بسمُوِّهِ على الحاكِمِ الدنيويِّ وعلى سلطاتِهِ ، فكانَ الحُكْمُ الدنيويُّ والحاكمُ الدنيويُّ تابعينِ للحاكمِ الدينيِّ ، يولِّي مَنْ يشاءُ ، ويعزلُ مَنْ يشاءُ ، ويحرمُ مَا يشاءُ ، ويبيحُ مَا يشاءُ ، ويُدْخِلُ الجنةَ مَنْ يشاءُ ، ويَحْرِمُ منها مَنْ يشاءُ ، ولا يجوزُ الِاعْتراضُ عليهِ ، فتصرفاتُهُ معصومَةٌ ، مع حياطَةِ ذلكَ بسياجٍ مِنَ التَّعذيبِ ومحاكمِ التفتيشِ لكلِّ مَنْ تُسَوِّلُ لَهُ نفسُهُ أَنْ يخالفَ سياسَةَ البابا ، كيفَ لَا وهُوَ نائبُ الرَّبِّ في الأرضِ ، ويقضِي باسمِهِ ؟!!
·الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ صُوَرِ الدَّوْلَةِ الدِّينِيَّةِ : «دَوْلَةُ الْـحَقِّ الْإِلَـهِيِّ الْـمَلَكِيِّ» تُعَدُّ هذه الصورةُ مِنْ صورِ «الدولةِ الدينيَّةِ» ، والتي طُرِحَتْ كمفهومٍ مقابلٍ لـ«دولةِ الحقِّ الشعبيِّ» مبنيَّةً على نفسِ أساسِ دولةِ الكنيسةِ مِنْ أَنَّ أصلَ سُلطةِ الحكمِ هو أصلٌ دينيٌّ ، ولكنْ تمَّ تطويرُ هذا المفهومِ مَعَ انْحسارِ أثرِ الكنيسةِ في توليةِ الملوكِ ، بحيثُ يبقَى للملوكِ نفسُ النيابةِ الإلهيةِ رغمَ ضعفِ أثرِ الكنيسةِ ، وانحسارِ دولتِهَا ، ولنتأملِ الْآنَ هذه العباراتِ التي نقرأُهَا للأميرِ «جيمس» الذي أصبحَ بعدَ ذلك «جيمس الأول» ملكُ إنجلترَا : «مَرْكَزُ الملكيَّةِ أسمَى شيءٌ علَى الأرضِ ؛ إِذْ ليسَ الملوكُ فقطْ نوابُ اللهِ على الأرضِ ، ويجلسونَ على عرشِ اللهِ ، ولكنْ حتَّى اللهَ نفسَهُ يدعوهُمْ الآلهةَ» . وَيَقُولُ شارِحُهُ : «وهَذَا يستتبعُ بالضرورةِ أنَّ الملوكَ هُمُ الَّذينَ يخلقونَ القوانينَ وَيَصْنَعُونَهَا ، وليستِ الْقوانينُ هي التي تخلقُ الملوكَ وتصنَعُهُمْ» . وَيَقُولُ جيمسُ : «لَا يجوزُ شرعًا المنازعةُ فِي سرِّ سلطةِ الْـمَلِكِ ؛ لِأَنَّ معنَى ذَلِكَ هُوَ الْخَوْضُ في ضعفِ الأمراءِ ، وإزالةِ الِاحْترامِ الخفيِّ الذي هُوَ من حقِّ الذينَ يجلسونَ على عرشِ الرَّبِّ» [«تطور الفكر السياسي» لجورج سباين (ص/544)] .
(3)
مَوْقِفُ الْإِسْلَامِ مِنَ الدَّوْلَةِ الدِّينِيَّةِ وِفْقَ النَّظَرِيَّاتِ وَالْـمَعَانِي السَّابِقَةِ
إذا تأملْنَا في العرضِ المختصرِ السَّابقِ ، وحاولنَا استخراجَ أهمِّ معالِـمِ مفهومِ الدولةِ الدينيَّةِ «الثِّيُوقْرَاطِيَّةِ» ، ونظريَّاتِهَا المؤسَّسَةِ ، وموقفِ الإسلامِ منهَا ؛ سَيَظْهَرُ لنَا بوضوحٍ شديدٍ أنَّ الإسلامَ يرفضُ تمامًا أنْ يكونَ لأحدٍ غيرَ نصِّ الوحيِ حاكمِيَّةً علَى الخلقِ ، فالنَّبِيُّ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ ـ إِنَّمَا يتكلَّمُ بوحيٍ يوحَى إليهِ مِنَ اللهِ ، وبموتِهِ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ ـ انقطعَ الوحيُ ، ولَـمْ تبقَ إلَّا اجتهاداتُ العلماءِ في فهمِ هذا الوحيِ ، فيختلفونَ ويتفقونَ ، وليستْ كلمةُ واحدٍ منهُمْ بدينٍ يجبُ اتباعُهُ ، وليستْ لواحدٍ منهُمْ عصمةٌ ولَا شبهُهَا ، ولَا يملكُ واحدٌ منهُمْ مهمَا عَظُمَ قدرُهُ أنْ يولِّي بنفسِهِ حاكمًا ، أو يخلَعَهُ ، بلْ ذلكَ لمجموعِ أهلِ الحلِّ والعقدِ وِفْقَ أصولٍ شرعيَّةٍ منصوصةٍ ، ولَـمْ يُتْرَكِ الْأمرُ لأهواءِ أهلِ الحلِّ والعقدِ ، وذهبَ فريقٌ من فقهاءِ المسلمينَ إلى أنَّ رأيَ أهلِ الحلِّ والعقدِ ليسَ مُلْزِمًا لعمومِ الأمَّةِ ، ولابُدَّ للأمَّةِ مِنْ إقرارِ ما ينتهِي إليهِ أهلُ الحلِّ والعقدِ ، وأنْ يرضَوْا عنْهُ ، ولا يتمُّ لِـمَنِ اختارَهُ أهلُ الحلِّ والعقدِ الحكمُ حتَّى تَرْضَى الأمةُ وتبايعُ ، وهذا الحاكمُ إنَّمَا بُويِعَ باختيارِ الشعبِ ، وهو مأمورٌ أن يحكمَ بينهُمْ بما أنزلَ اللهُ ، ولا طاعةَ لهُ إنْ أمرَهُمْ بمعصيةٍ ، ويجوزُ عزلُهُ وخلعُهُ عن منصبِ الحكمِ بشروطٍ معروفةٍ ، وليستْ لَهُ طبيعةٌ إلهيَّةٌ ، ولَا يُنَصَّبُ بحقٍّ إلهيٍّ مُباشرًا كَانَ ، أَوْ غَيْرَ مباشرٍ ، وليسَ نائبًا عَنِ اللهِ ـ عزَّ وجلَّ ـ ، وإنَّمَا هو وكيلٌ وكلَتْهُ الأُمَّةُ لضبطِ شؤونِهَا. بهذَا العرضِ المختصرِ لأسسِ نظامِ الحكمِ في الإسلامِ تظهرُ بوضوحٍ خطوطُ التقاطعِ والرفضِ الإسلاميِّ للدولةِ الدينيَّةِ القائمةِ على النظرياتِ السابقةِ ، وبمراجعةِ تفاصيلِ هذا العرضِ في مصادرِ الفقهِ السياسيِّ يتضحُ التباينُ الشديدُ بينَ هذا البغيِ والظلمِ الكنسيِّ ، وبينَ دينِ العدلِ والمرحمةِ .
--------------------
|