15/2
االفرق بين صلح الرملة و”السلام” مع العدو الصهيوني
د. إبراهيم علوش
30/6/2011
ما برح بعض “المعتدلين” اليوم يسعون لتبرير الانخراط في “عملية السلام” مع العدو الصهيوني بوسائل شتى وبذرائع شبه “تاريخية”، منها مثلاً “صلح الرملة” الذي أبرمه الناصر صلاح الدين مع ريكاردوس قلب الأسد ملك بريطانيا في بداية شهر أيلول عام 1192، أي بعد تحرير القدس ومعظم أراضي بلاد الشام بخمس سنوات تقريباً.
وكان صلح الرملة يقضي ببقاء الساحل الشامي بين صور ويافا بيد الفرنجة، على أن يبقى بقية ما تم تحريره من الأراضي المحتلة، ومنها القدس، بيد المسلمين، وأن يعيد الصليبيون عسقلان للمسلمين، وأن يُسمح للفرنجة بالحج إلى القدس مسالمين، على أن تكون بين الفرنجة والمسلمين هدنة عسكرية مدتها خمس سنوات.
ونظراً لما لصلاح الدين محرر القدس من مكانة وسمعة في عقول وقلوب العرب والمسلمين، فإن دعاة التفاهم والتعايش والصلح والاعتراف بالعدو الصهيوني يحاولون التستر بسيرته متظاهرين عبثاً بأنهم لم يفعلوا شيئاً لم يقم به صلاح الدين من قبلهم، وشتان ما بينه وبينهم. ولذلك لا بد من العودة لتوضيح الفرق ما بين صلح الرملة، من جهة، و”عملية السلام” مع العدو الصهيوني، من جهة أخرى. فالفرق بين المقاومين والمفرطين كالفرق بين أكثر نقطة انخفاضاً في غور الأردن وقمم الجبال.
في البداية لا بد من القول أن القياس الآلي على الوقائع التاريخية دون أخذ السياق السياسي وميزان القوى، والكثير من العوامل الأخرى المحيطة بالحدث، بعين الاعتبار يقود إلى الضلال والتخبط في الاستنتاجات. والمعاهدة التي تكون ضرورية لمصلحة الأمة في لحظة ما قد تعبر عن الخيانة أو التهاون والتفريط في لحظة أخرى. لكن صلح الرملة لم يكن خيانة ولا تفريطاً ولا تهاوناً، على النقيض من “عملية السلام” مع العدو الصهيوني اليوم.
وخلاصة قصة صلح الرملة أن الأوروبيين تداعوا بعد معركة حطين، وتحرير القدس، وسقوط الكثير من الإمارات الصليبية في بلاد الشام بيد قوات صلاح الدين في خريف عام 1187، إلى حملة صليبية ثالثة جمعوا لها قوى ضخمة تعد بمئات الآلاف بقيادة ملوك ألمانيا وفرنسا وبريطانيا من أجل “تغيير النظام” في بلاد الشام. وقد انطلقت تلك الحملة، عبر طرق مختلفة، باتجاه بلاد الشام، بعد عامين من تحرير القدس.
وكان صلاح الدين قد ارتكب خطأً إستراتيجياً، حسب إجماع المؤرخين الأصدقاء والمعادين، بترك مدينة صور على ساحل جنوب لبنان بيد الفرنجة، لا بل بالسماح، بتسامحه المعروف، لكثيرٍ من المحاربين الفرنجة الهاربين من فلسطين وشرق الأردن وصيدا وبيروت واللاذقية وطرطوس باللجوء آمنين إلى صور مع أموالهم وممتلكاتهم. وكانت صور محصنة جيداً من البر والبحر، وبالتالي وقف أمامها صلاح الدين أكثر من مرة وقرر أن يتجاوزها، خاصة أن جيشه كان مرهقاً من الحروب، وخزينة الدولة الأيوبية مفلسة، فقرر صلاح الدين تسريح قسم كبير من الجيش في الشتاء، مركناً لانتصاراته المزلزلة ومراهناً على ما يبدو أن راس اللسان الصغير المحاصر في صور لن يكون له من الأمر شيء، خاصة أن المسيحيين العرب كانوا مع صلاح الدين، وسبق أن أسهموا معه بفتح أسوار القدس. ولو غنم جزءاً مما نقله المحاربون الصليبيون لصور، وهو منهوب من بلادنا أصلاً، وحلالٌ عليه، لحل مشكلة موازنة الجيش.
لكن غلطة الشاطر بألف، ودمشق التي انطلقت منها الجيوش لتحرير القدس مستهدفة، ولبنان، خاصرة بلاد الشام، مفتوح بحرياً على أوروبا. وكان صلاح الدين قد أرسل عشرة سفن من مصر لمحاصرة صور بحرياً، لكن الصليبيين دمروا خمسة منها، وهرب بقيتها إلى بيروت. ولم يتابع صلاح الدين الأمر. لا بل أنه أطلق في تموز 1188 سراح “غي” ملك القدس الصليبي المخلوع مستحلفاً إياه أمام الملأ ألا يرفع سلاحاً يوماً بوجه المسلمين، فحلف.. ونكث بعدها.
أبان ذلك، كان الفرنجة المحاصرون في صور قد بادروا إلى استدعاء العون بحرياً من أوروبا، وفي آب 1189 تقدمت حملة بحرية انطلاقاً من صور باتجاه عكا، بالاشتراك مع قوات فرنجة طازجة من أوروبا، وعلى رأسها الملك الصليبي الناكث بعهوده “غي”، وانشأ الصليبيون طوقاً برياً وبحرياً حول حامية عكا المقاومة ظل يتجدد بإمدادات لا تنضب من البحر. وظلت عكا تقاتل عامين، حتى انهارت في تموز عام 1191.
وقبلها كان فريدريك برباروسا، ملك الألمان، قد راح يتقدم على رأس مئتي ألف مقاتل (أو مئة ألف أو أقل، حسب المراجع الغربية) باتجاه بلاد الشام، عن طريق هضبة الأناضول، في تشرين الأول 1189، وقد أعتبر صلاح الدين تقدم الألمان الخطر الأكبر الذي طفق يحشد القوى لمواجهته، لكن فريدريك برباروسا الذي اجتاح الإمارات التركية بسهولة أصيب بسكتة قلبية قبيل وصوله لإنطاكية، وهو يستحم بمجرى ماء (لا يصل لوسط الرجل، حسب ابن الأثير) عند جبال طوروس في 10/6/1190، وكان في الثامنة والستين من العمر، فتشتت جيشه، وتخلصت بلادنا من لعنته، ونزل ما تبقى من جيشه، وهو خمسة آلاف، في عكا.
لكن لم يكد خطر الألمان يضمحل حتى تعاظم كالعادة خطر الفرنسيين والبريطانيين وحلفائهم، وفي نيسان 1191 نزل ملك فرنسا فيليب أغسطس مع جيوشه إلى جوار عكا، وفي حزيران من نفس العام تبعه ملك بريطانيا ريكاردوس قلب الأسد، وما لبثت عكا أن سقطت بعد تعذر وصول الإمدادات إليها، فذبح ريكاردوس ثلاثة آلاف من الأسرى على أسوارها، منهم 2700 جندي، و300 من عائلاتهم، على النقيض من تسامح المسلمين مع أسرى الفرنجة.
وقررت القيادة العسكرية أن الزج بكل جيش المسلمين في هجوم شامل على عكا كان سيدمره، ويترك البلاد مفتوحة لهجوم صليبي عام، فاتخذت بدلاً عن ذلك إستراتيجية احتواء الغزاة عسكرياً على ساحل فلسطين قدر الإمكان. وهكذا سار جيش الصليبيين جنوباً يرافقه أسطوله في البحر، وسار جيش المسلمين بخط موازٍ لجيش الصليبيين في الداخل الفلسطيني، وشاغله، واشتبك معه مراراً في عدة معارك على مدى عام ونيف تقريباً، لم تحسم نهائياً لأيٍ من الطرفين، ومنها معركة أرسوف شمال يافا في أيلول 1191 (وهي غير معركة أرسوف التي قادها الظاهر بيبرس ضد الصليبيين عام 1265).
وتمكن الصليبيون خلال هذه الحملة الصليبية الثالثة من التمدد من عكا إلى حيفا ويافا إلى عسقلان، وكان العرب المتطوعة وجيش صلاح الدين يمارسان حرب العصابات ضد جيش الفرنجة يومياً لإنهاكه واستنزافه ومنعه من الاستقرار، وكانت خطة جيش المسلمين المركزية هي الحفاظ على الداخل، واحتواء الصليبيين في شريط ساحلي ضيق، ومنعهم من تحقيق هدفهم الإستراتيجي، وهو استعادة القدس التي حررها صلاح الدين بعد 88 عاماً من الاحتلال.
وكانت الصراعات بين ملك فرنسا فيليب وملك بريطانيا ريكاردوس قد لعبت دورها في عودة الملك الفرنسي إلى بلاده في صيف عام 1191، بعد مئة يوم فقط من مجيئه لعكا، تاركاً قيادة الحملة الصليبية الثالثة لريكاردوس. ولعبت الصراعات على الملك في بريطانيا دورهاً أيضاً في تخويف ريكاردوس من ترك مملكته طويلاً. فراح ريكاردوس يفاوض صلاح الدين عبر أخيه العادل، لأن صلاح الدين رفض أن يقابله وجهاً لوجه، ومن ثم ألم المرض الشديد بريكاردوس، فعالجه الأطباء العرب، ومن هنا جاء صلح الرملة.
إذن، فلنلاحظ أن: 1) صلاح الدين رفض أن يقابل ريكاردوس، وفاوضه عبر أخيه العادل، 2) صلح الرملة كان هدنة محدودة الأجل، ولم يكن اعترافاً “تاريخياً” بحق العدو بالوجود، 3) المسلمين تمكنوا من منع جيش الفرنجة من تحقيق هدفه الأساسي وهو احتلال القدس، 4) صلح الرملة نص على بند يعترف بسيادة المسلمين على القدس، وكل داخل فلسطين، للمرة الأولى منذ بدأت الحروب الصليبية، 5) الصلح أنتج عودة ريكاردوس قلب الأسد إلى بلاده فتخلص الناس من شره، ولم يؤدي إلى استيطان ريكاردوس في فلسطين، وهو ما يشكل نصراً معنوياً كبيراً، 6) “التنازل” الذي قدمه صلاح الدين بالسماح للفرنجة الأجانب بالحج إلى القدس مسالمين لم يخرج قيد أنملة عن مبدأ السيادة العربية-الإسلامية على القدس، وينسجم مع العهدة العمرية، 7) صلاح الدين بقي متحصنا بالقدس، وكانت مقاومته العسكرية الباسلة للغزو الصليبي، وموقفه السياسي الصلب، هو الذي أجبر الفرنجة على التخلي عن استكمال حملتهم الثالثة على بلاد الشام بعد انكفائهم في شريط ساحلي ضيق.
إذن لم يكن صلح الرملة معاهدة استسلام تكرس هزيمة عسكرية، بل كان مناورة دبلوماسية لحماية نصر عسكري ضخم كان قد تم تحقيقه قبلها بخمس سنوات، بتكسير معظم الإمارات الصليبية في بلاد الشام، خاصةً في فلسطين وشرق الأردن. وكان صلح الرملة يمثل نهاية الحملة الصليبية الثالثة، ولم يتم توقيعه من قبل أطراف خائرة القوى ومتهالكة على كسب ود الغرب، ولم ينتج عن هزائم عسكرية للعرب، ولا عن استعداد للتفريط بالسيادة، ولا عن تساهل مع مشروع التدخل الخارجي ب”تغيير النظام” “حقناً للدماء”، بل نتج عن قوة انتصرت من قبل، ونجحت بمحاصرة الحملة الصليبية الثالثة في الساحل، وتستطيع بالتالي أن تراهن على نفسها لاقتلاع ما تبقى منها.
أما الداعون للسلام مع “إسرائيل” اليوم فلا يهادنون مؤقتاً ليحاربوا، بل يستسلمون، ويعترفون، وهذا فرق كبير، وهم لم يحرروا شيئاً، ولم يبنوا قوى، ولا يتمسكون بموقفٍ مبدئي صلب، ولا يفاوضون حتى من موقع ضعف، بل من موقع يأس، وتقوم كل إستراتيجيتهم على جعل العدو يحبهم!
وللأسف أن صلاح الدين أصيب بمرض شديد بعد صلح الرملة بقليل، وتوفي بعده ستة أشهر بالضبط، عن ستةً وخمسين عاماً، ولم يكن الأيوبيون بعده للأسف على ما كان عليه صلاح الدين، فأفلتت الأمور من أيديهم.
ولكن إذا كان لنا أن نراهن على موقف صلاح الدين في اقتلاع الصليبيين من الشريط الساحلي الضيق، فمن مراسلاته مع ريكاردوس قلب الأسد. أنظروا مثلاً بعض ما جاء في رسالة ريكاردوس لصلاح الدين، وبعضاً مما رد به عليها:
- ريكاردوس: “فأما القدس فمحل عبادتنا ولا نقبل أبداً بالعدول عنها حتى وإن لزم أن نقاتل إلى أخر رجل فينا. وأما الأرض فنريد أن يعاد إلينا ما هو واقع غربي نهر الأردن”.
- ويرد صلاح الدين: “المدينة المقدسة أمر تركها غير وارد في حسابنا، والمسلمون لا يقبلون بذلك قط. وأما الأرض فطالما كانت أرضنا، واحتلالكم إياها ليس إلا عَرَضاً. ولقد أقمتم فيها بسبب ضعف المسلمين الذين كانوا فيها، أما والحرب قائمة فإننا لن نسمح لكم بالتمتع بما ملكتم”.
وفي النهاية، رحل ريكاردوس دون أن يرى القدس، ودون أن يأخذ الأرض الواقعة غربي نهر الأردن، أما ما أخذه الصليبيون، فصلاح الدين يقول له أنها أرضٌ محتلة لن يُسمح للمحتلين أن يتمتعوا بها، وهذا رفض مبدئي لحق الاحتلال بالوجود، وليس “عملية سلام” مع المحتل، أو اعتراف ب”قرارات الشرعية الدولية” ولا سعي لنيل رضا الغرب للتمتع بالحكم أو من أجل الوصول إليه، على طريقة بعض “الثوار” العرب مؤخراً.
أخيراً، لا ننسى أن نذكّر، من وحي تجربة صلاح الدين وغيرها، أن سقوط القدس يعني سقوط الشام والموصل ومصر، مملكة صلاح الدين، وأن ثبات الشام ومصر يعني تحرير القدس.
http://freearabvoice.org/?p=1274http://amgadalarab.com/index.php?todo=view...amp;id=00009624