بسم الله الرحمن الرحيم
تحريف الرأسمالية لمفهوم الزواج إفساد يخالف الفطرة ويهدد بُنية الأسرة يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، فالله سبحانه وضع للبشر منْهَجًا يسيرون عليه، ليحيوا باتباعه حياة سعيدة في الدنيا، ويفوزوا بجنته يوم القيامة، ولكن عندما غفلوا عن هذا المنهج، واتبعوا منهجاً غيره، عاشوا في ضنك وشقاء، وانتشر الفساد في الأرض نتيجة الاحتكام للأنظمة الوضعية، والناظر إلى حالنا اليوم يرى أن الفساد قد طال كلَّ مجالات الحياة في ظل هيمنة المبدأ الرأسمالي، وقد كان نصيب النظام الاجتماعي من هذا الفساد كبيراً، فأصاب جميع أركانه ومفاهيمه تقريباً ومن بينها مفهوما الزواج والأسرة.
إن بداية الفساد والتضليل اللذين أدخلتهما الرأسمالية على مفهومي الزواج والأسرة كانت من خلال نظرتها السقيمة للمرأة، ولطبيعة العلاقة بينها وبين الرجل، حيث نظرت إلى المرأة على أنها سلعة تُعرض في المنتديات والملاهي والمقاهي وحتى المحلات التجارية ومتعة لإشباع الشهوات وخاصة لأصحاب النفوس المريضة، فأصبحت المرأة عندهم تُقيَّم بمقدار إرضائها للزبائن وقدرتها على إغرائهم متجاهلين أن لها قيمة إنسانية ووظيفية تماما كالرجل بغض النظر عن مظهرها، وكان من جراء ذلك أن جُعلت نظرة الرجل إلى المرأة ونظرة المرأة إلى الرجل نظرة جنسية بحتة، مما جعل الرجل لا يرى في المرأة إلا مكانا لقضاء حاجاته وشهواته، وجعل المرأة تحرص دائما على أن تظهر بذلك المظهر الذي يلبي تلك الشهوات وهو ما حطّ من قيمة كل منهما في نظر الآخر وأفسد الحياة العامة، وأدى إلى ظهور مشكلات اجتماعية خطيرة وكثيرة في الغرب، منها انتشار الأمهات غير المتزوجات، وكثرة الأولاد غير الشرعيين.
ومما أسهم أيضاً في هذا الإفساد والتضليل إطلاقها العنان للفرد ليفعل ما يشاء إرضاء لرغباته وشهواته في إطار الحرية الشخصية، دون أي اعتبار للقِيَم والمبادئ والأخلاق، وقد كان من جراء ذلك أن انحرفت الفطرة وهبط الفكر وطغت البهيمية على السلوك الإنساني، فأصبح الإنسان في كنف الحضارة الرأسمالية في سلوكه ﴿كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾، فكثرت العلاقات المحرمة خارج إطار الزواج، وبتنا نسمع عن أنواع من العلاقات وحالات من الزواج يجد الإنسان السوي حرجاً حتى من مجرد ذكرها كزواج المثليين والذي أصبح قانونياً في كثير من الدول الغربية كبريطانيا، وأستراليا والسويد وأمريكا وغيرها من الدول.
أما على صعيد الأسرة فقد اتخذت عندهم أشكالاً جديدة غير الشكل الطبيعي المتعارف عليه (أب، أم، أولاد)، في ظل العلاقات الشاذة التي أوجدوها، فقد تكون مكونة من رجلين أو امرأتين، فكان ذلك ضربة قاصمة لمفهوم الأسرة، بل ضربة قاصمة للمجتمع الذي تشكل الأسرة نواته.
وإذا ما نظرنا إلى العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة، نجد أن الناحية المادية تظهر بوضوح في العلاقات بين أفرادها، كما نجد أن التفكك الأسري بات يشكل ظاهرة في المجتمعات الغربية، فبحسب نمط الحياة الغربية فإن الرجل ليس له قوامة على بيته وعياله وليس مكلفا بالنفقة على زوجته، فيجب عليها العمل لتنفق على نفسها، فالرأسمالية تجعل العلاقة بين الزوجين تقوم على النّدية وإثبات الذات، وكأنهما في حالة صراع، وأما الأبناء فكثير منهم يترك ذويه عندما يبلغ سن الثامنة عشر، ويستقّل بنفسه ولا تصبح له أي علاقة بوالديه، وفي أحسن الحالات يودعهم في مأوى للعجزة ويزورهم في المناسبات.
وقد عملت الدول الغربية ومؤسساتها على تصدير هذه المفاهيم والعلاقات الفاسدة إلى بلاد المسلمين تحت ذريعة حقوق الإنسان واحترام الحريات الشخصية، وذلك عبر الإعلام ومناهج التعليم والجمعيات النسوية والحقوقية، وعبر القوانين التي تسنها الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين إرضاء لهذه الدول وتنفيذاً لأوامرها وخططها الإفسادية، فأصبحنا نسمع عن مطالبات باعتماد الزواج المدني في بلاد المسلمين بدل الزواج الشرعي، وبتنا للأسف نسمع عن حالات لزواج المثليين في بلاد المسلمين تحت ستار الحرية الشخصية كتركيا، وعن تنظيم اجتماع سري لهم في الأردن عام 2015 بحضور سفيرة أمريكا، وفي تونس تقوم بعض الجمعيات بالدفاع عما تسميه "حقوق الشواذ" وتسعى لشرعنة زواج المثليين، بل إنه في سابقة خطيرة افتُتِحَت لهم إذاعة خاصة بهم، كل هذا يحدث في ظل صمت ورضا حكام هذه البلاد عن هذه الجرائم الأخلاقية رغم مخالفتها الصريحة للأحكام الشرعية، أما الجمعيات النسوية فقد أخذت تروج لبرامج تنظيم النسل بغية تحديده تحت شعار صحة المرأة وسلامتها، كما حاربت تعدد الزوجات والزواج المبكر تحت شعار حقوق المرأة والطفل.
أما على صعيد القوانين التي أصدرتها الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين في هذا الإطار فنذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما قامت به السلطات التونسية من سماحها بزواج المسلمة من غير المسلم عبر إلغائها أمرا وزاريا كان يحظر زواج التونسيات المسلمات من غير المسلمين، ونذكر منها أيضاً سعي بعض الدول كالسعودية ومصر لتحديد سن معينة للزواج وهو أمر يخالف الأحكام الشرعية، ومن جرائم الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين مصادقتهم وانضمامهم للاتفاقيات الدولية التي تستهدف النظام الاجتماعي في الإسلام ومن ضمنه موضوع الزواج والأسرة، كاتفاقية سيداو والتي تدعو في بنودها إلى حرية إقامة العلاقات المحرمة بين الشباب والفتيات تحت ذريعة الحرية الشخصية، كما تطالب بالمساواة المطلقة بين الجنسين، وبإلغاء الزواج بحسب أحكام الشريعة الإسلامية واعتماد الزواج المدني، وتدعو إلى إلغاء ولاية الأب على أبنائه، ولا سيما الإناث، وتنادي بالمساواة في حق اختيار الزوج فللبنت أن تتزوج بمن شاءت ولو كان كافراً، وتطالب بإلغاء قوامة الرجل على المرأة، كما تدعو إلى إلغاء المهر أيضاً، وغيرها من الأمور التي تخالف أحكام الإسلام.
لقد خالفت الرأسمالية الفطرة البشرية، وأفرغت مفهوم الزواج من مضمونه، ودمرت أبسط المعاني الإنسانية، فضاقت الشعوب الغربية بها ذرعاً قبل غيرها، ولا أدل على ذلك من خروج مظاهرات ومسيرات عدة في عواصم ومدن غربية للاحتجاج على شرعنة زواج المثليين، والمطالبة بحقوق بدهية ومعان إنسانية فُقدت في ظل الفساد الذي أحدثته الرأسمالية، فرأينا هؤلاء المتظاهرين ينادون بضرورة عودة الأسرة إلى شكلها التقليدي (الأصلي) (أب، وأم، وأبناء)، ومن هذه المظاهرات، المظاهرة التي نظمت في مدينة روما الإيطالية في شهر حزيران عام 2015، ورفعت فيها شعارات من مثل "العائلة تنقذ العالم"، و"دفاعا عن أطفالنا" حسبما ذكرت وكالة فرانس برس، وكالمظاهرة التي نظمت في العاصمة الفرنسية باريس ورفعت فيها لافتات كتب عليها "زواج المثليين: حرمان الطفل من أم أو من أب" ( البي بي سي 13 كانون الثاني/يناير 2013).
وفي الوقت الذي رفض فيه الأفراد في المجتمعات الغربية مخلفات الرأسمالية، واعترضوا عليها لمخالفتها الفطرة البشرية، ولما جرته عليهم من ويلات، حاكمتهم الأنظمة "الديمقراطية" على ذلك تحت مسمى الاعتداء على الحرية الشخصية، فيما لم تقبل رفضهم واعتراضهم على أنه "حرية شخصية" حسب قانونها، كالخباز الأمريكي الذي أقيمت ضده دعوى قضائية لرفضه صنع كعكة لحفل زفاف لمثليين حسب ما ذكرت صحيفة الواشنطن بوست، وهو أمر يظهر فيه ازدواجية المعايير الغربية وحقيقة الديمقراطية والحرية الشخصية المزعومة.
أما في الإسلام، فليس البشر هم الذين يقررون ما هو الصواب وما هو الخطأ، وما هو أخلاقيّ أو غير أخلاقيّ، اعتماداً على المزاج داخل المجتمع في أي وقت معين، وعلى مصالح المشرعين، كما في الأنظمة الوضعية، بل جميع الأحكام والتشريعات نزلت من لدن حكيم خبير ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾، فجاءت هذه الأحكام موافقة للفطرة البشرية، مقنعة للعقل، محققة السعادة للفرد، وضامنة لسلامة المجتمع وقيمه، ولذلك نجد أن الإسلام حرص على تصحيح نظرة الرجل للمرأة والمرأة للرجل فجعل النظرة نظرة إلى التعاون والعيش المشترك وحال بين أن تتحول هذه النظرة إلى نظرة ذكورة وأنوثة إلا حين التفكير بالزواج. فجعل فيه تنظيماً لصلات الذكورة والأنوثة بين الرجل والمرأة بنظام خاص، وهو الذي يجب أن ينتج التناسل عنه وحده، وهو الذي يحصل به التكاثر في النوع الإنساني، وبه توجد الأسرة.
وختاماً: ثلاث كلمات "سكَن، ومودَّة، ورحمة" تختصر طبيعة العلاقة التي أرادها الإسلام أن تكون قائمة بين الزوجين، حيث يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾، ومن البدهي أنه إذا تحققت المودة والسكينة والرحمة بين الزوجين فإن ذلك سينعكس تلقائياً على الأبناء وعلى تماسك الأسرة، فيقوم كل طرف بواجباته، ويحصل على حقوقه أيضاً.
كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
أختكم براءة مناصرة