تغيير المنكرات بالقلب
قال عليه الصلاة والسلام: (( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) رواه مسلم، هذا الحديث يتخذ تكئة لتبرير تخاذل البعض عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتخذ تكئة لعلماء السلطان وعيشهم في قصور السلاطين بالقول أنهم لا يقرون الحكام على منكراتهم وان قلوبهم تنكر أي منكر يصنعونه، ويتخذ تكئة لتبرير سكوت الكثير من العلماء والعامة من المسلمين عن منكرات الحكام بالقول أنهم ينكرون المنكر بقلوبهم.
والحقيقة أن هذا الحديث يتحدث عن تغيير المنكر وليس عن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشكل عام، فالحديث خاص بموضوع التغيير ولا يتكلم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشكل عام، فالحديث يقول أن من وقع أمامه منكر أو رأى منكرا يجب المبادرة إلى إزالته وتغييره باستخدام القوة واليد؛ وهذا في حالة السلطان واجبة لأنه يملك القوة الكافية لإزالة المنكرات، ولذلك كانت الطريقة العملية للتخلص من المنكرات هي وجود دولة إسلامية أي دولة الخلافة فتسن قوانين يؤدي تطبيقها إلى إيجاد المعروف والقضاء على المنكرات، بعكس حكام اليوم الذين يؤدي وجودهم إلى إيجاد المنكرات والقضاء على المعروف، ولذلك وجب تغييرهم.
أما بالنسبة للفرد فيتصور تغيير المنكر منه باستخدام اليد مع أبنائه وزوجته ومن له سلطان عليهم، أما غيرهم فلا يملك ذلك السلطان عليهم.
فمثلا رؤيته لجاره يقوم بمنكر فإنه هنا لا يستطيع استخدام اليد، وعندها يقال انه لا يستطيع تغيير المنكر باليد لعدم الاستطاعة، ولان استخدام اليد يمكن أن يؤدي إلى منكر اكبر منه، عندها يلجأ فقط للسان بتقريعه وتحذيره من غضب الله إن استمر في هذا المنكر.
أما القلب فيلجأ إليه في حالة أن استخدام اليد واستخدام اللسان يؤدي إلى منكر اكبر منه، مثل أن يرى الشخص امرأة متبرجة كاشفة لعورتها فيخشى إن تكلم معها أن تثير الناس عليه وتتهمه بالتحرش بها وتتهمه بدينه، عندها ينكر المنكر بقلبه.
أما معنى الإنكار بالقلب فهو:إظهار عدم الرضا عن هذا المنكر بتعابير الوجه وامتعاض من هذا المنكر واعتزال المنكر وأهله، ويؤيد ذلك آيات من القرآن الكريم حيث قال جل وعلا: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين}[الأنعام:68] وقال تعالى: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا}[النساء:140].
فمجالسة الظالم والأكل من طعامه ومسامرته والضحك معه ليس فيها أي درجة من الإنكار بالقلب، بل لا بد من اعتزالهم نهائيا.
هذا في موضوع التغيير،
أما فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي فريضة غير مرتبطة بالاستطاعة، ونقصد هنا بيان الحق من الباطل والأخذ على يد الظالمين ومحاسبتهم، فإنها غير مرتبطة بالاستطاعة، على العكس من ذلك فقد طلب الشرع تحمل ما يمكن أن ينتج عنها من أذى إن قام بها الإنسان، ولم يعط رخصة بالسكوت عنها نهائيا إلا في حالة الإكراه الملجئ، حتى لو صلب الشخص في سبيل ذلك، ومن أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله عز وجل أن يبعث عليكم عذابا من عنده ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) رواه الترمذي وحسنه وغيره الكثير من الأدلة التي يمكن الوصول إليها بسهولة، وأيضا ما عاناه الصحابة من شدة التعذيب نتيجة أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر في مكة خير دليل على وجوب هذا الأمر ولو تعرض صاحبه للتعذيب.
وبيان ذلك أن الأمة بمجموعها والأحزاب فيها والعلماء بمجموعهم لا رخصة لهم في ذلك، فلا يقال أن الأمة يجوز أن تسكت عن المنكرات خوفا من بطش الظالمين، فهذا منكر عام يؤدي إلى أن ينزل غضب الله على المسلمين، قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودّع منهم)) رواه الحاكم في المستدرك. وكذلك الأمر بالنسبة للحزب فلا رخصة له بالسكوت عن منكرات الحكام نهائيا ولو اختفى الحزب من الوجود، ودليل ذلك فعله صلى الله عليه وسلم في مكة كأمير لجماعة المسلمين (الصحابة) فإنه رفض رفضا باتا إعطاء الكفار أي تنازل ولو بسيط، مع أنه سكت عن الأفراد إن أخذوا بالرخصة، ولكن كحزب لم يعط الكفار أي شيء ولو يسير من التنازل عن الحق.
أما بالنسبة للعلماء بفرديتهم فإن كان موقف العالم بأخذه بالرخصة يمكن أن يطمس الحق كقصة الإمام أحمد بن حنبل فلا يجوز له الأخذ بالرخصة، أما إن وجد علماء آخرين يبينون الحق فيجوز للعالم الأخذ بالرخصة، وأما المسلم العادي فيجب عليه هو الآخر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويجوز له الأخذ بالرخصة مع أن الأخذ بالعزيمة أثوب عند الله تعالى، وإن قتل صاحبها في سبيل ذلك فقد استحق منزلة سيد الشهداء في سبيل ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: ((سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله)) رواه الحاكم.
أما
الرخصة التي نتحدث عنها فهي الإكراه الملجئ الذي تحدث عنه العلماء أي أن يعتقل الشخص ويتم تهديده تهديدا حقيقيا بالقتل أو بإتلاف أي من أعضاء الجسم، فعندها يجوز له الأخذ الرخصة، أما الاعتقال والسجن والتعذيب والطرد من الوظيفة وتوقع القتل وتوقع إتلاف الأعضاء فلا تبيح الأخذ بالرخصة، فيجب تحمل العذاب في سبيل ذلك، أما إن وصل الأمر إلى القتل وإتلاف احد الأعضاء وأصبح عند الشخص تأكيد بقيامهم بهذا الأمر فعندها يجوز الأخذ بالرخصة مع بقاء الأخذ بالعزيمة أثوب عند الله تعالى.
وبناء على ذلك فإن عيش الكثير من العلماء في بلاط السلطان هو مشاركة للظالمين في ظلمهم وفسادهم ولا يقبل منهم أي تبرير أو أي كلام في سبيل ذلك، فهم مساندين للظالمين على ظلمهم ويعطونهم الشرعية لظلمهم، وأما سكوت العلماء عن الحكام والظالمين بشكل عام بالقول انه يمكن أن يعتقلوا أو يسجنوا أو يطردوا من وظائفهم، فإنهم هم الآخرين غير معذورين نهائيا بل يجب عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا عذر لسكوتهم أبدا، وكذلك الأمر عامة المسلمين فلا عذر لهم بترك هذه الفريضة.
فان كان العالم بسكوته يطمس الحق فيلزمه حينها بيان الحق ولو تعرض للقتل لان الأخذ بالرخصة إن وصل إليها وهي حالة وضع السيف على الرقبة تطمس الحق كما في قصة الإمام احمد بن حنبل فعندها فليأخذ بالعزيمة وأجره على الله تعالى.
أما الأحزاب فإن سكوتها عن المنكر لا يجوز ولا رخصة لحزب أبدا حتى لو تم حله وإنهاؤه، لأنه لا رخصة لحزب بالسكوت عن المنكر.
هذا كله في موضوع
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي غير مسألة
التغيير التي يخلط الناس بها، وحتى
التغيير بالقلوب الذي تكلمنا عنه، فانه يأمر صاحبه باعتزال المنكر وأهله وعدم مجالستهم والأكل معهم والضحك معهم، مع بيان ظلمهم في نفس الوقت للناس كي يأخذوا على أيديهم.
هذا هو
التغيير بالقلوب الذي جاء به الشرع وليس هو ما يطرح حاليا من تخاذل وجبن ونفاق، فهذه الأطروحات الخاطئة جعلت المسلمين يسكتون عن المنكرات وجعلت العلماء يعيشون في كنف الظالمين يفتون لهم ويصرفون الأنظار عنهم، وجعلت الأحزاب تتلون تلون الحرباء من اجل الكراسي لا من اجل الله ورسوله والمؤمنين.
ومسألة أن بقاء العالم مع سكوته عن المنكر فان ذلك يؤدي أن يقوم الحاكم بإبقائه ليفتي للناس، لأنه باعتقاله سيحرم الناس من فتاواه.. فهو تبرير واه جدا، لأنه لو كان وحيدا في ذلك الأمر كما الإمام أحمد فيجب عليه بيان الحق ولو قطعت عنقه، أما إذا وجد آخرون ليفتوا بذلك وهم كثر اليوم، فتسقط تلك الحجة لضعفها ولأنه واهية جدا لا تصلح للاستدلال، إذ أن أعظم أمر يحتاجه الناس هو إزالة الظلم عنهم، ومع نفاق العالم فإن ذلك سيفتن المسلمين عن دينهم ويدعم الظالمين في الحكم، وهذا طبعا غير الأدلة الشرعية لحرمة ذلك.
https://www.facebook.com/145478009128046/ph...3898677/?type=3