بسم الله الرحمن الرحيم
مشهد من حياة صالحة أوسمانوفيتش خرجت صالحة أوسمانوفيتش من بيتها لتحتمي بسربرينيتشا بعد أن تم إعلان المدينة كمنطقة محمية. اقتاد الصرب صالحة وزوجها رامو وابنهما الشاب نيرمين إلى بوتوشاري. حاول رامو ونيريمين الهرب من خلال الغابة أو ما يعرف بـ"طريق الموت" ولكنهما قتلا وأصبحت تنتظرهما وهي تعرف أنهما لن يعودا.
طال الانتظار وإذا بإحدى الجارات تدعو صالحة لفنجان قهوة وتطلب من ابنها أن يطلع صالحة على مقطع فيديو. استدعت الجارة طبيبا تحسبا لردة فعل صالحة بعد مشاهدة المقطع. وعلى عكس توقعات الجارة أنزل الله السكينة في قلب صالحة وألهمها الله الصبر ولم تفاجأ بما شاهدته، فقد سمعت الكثير عن جرائم ممنهجة تمت خلال أقل من أسبوعين وقامت فيها الوحدات الصربية بتصفية ممنهجة لأكثر من ثمانية آلاف من مسلمي البوسنة (البوشناق)، في أبشع جرائم قتل جماعية على التراب الأوروبي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
المقطع يظهر لحظة قتل زوج صالحة وابنها ببشاعة نادرة المثيل.
يظهر رامو أوسمانوفيتش؛ رجل في منتصف العمر هزيل الجسد يبدو عليه الإعياء، رجل أسير لدى العدو مغلوب على أمره يتلقى أوامر من الصرب أن ينادي على ابنه نيرمين المختبئ في الغابة، يظهر المجرمون من حوله وهم يلقنونه وهو يردد خلفهم، أصواتهم خافتة بينما يصيح رامو في المقطع بكل ما أوتي من قوة، صاح رامو في المقطع المصور "نيرمين، احضر هنا حيث أمكث مع الصرب، لا تخف فالكل حضر إلى هنا"، ينادي رامو فيقرع صدى صوته الأذان، صوت بالرغم من قوته مليء بالحسرة والحيرة والقهر، ألمٌ يزلزل أرجاء المكان وصرخة لن تنمحي من ذاكرة كل من سيشاهد المقطع.
لم يقبل الصرب بقتل الأب وترك الابن فأرغموه على أن ينادي ابنه وأوهموه أن هذه هي الطريقة الوحيدة لإنقاذ حياته، أرادوا أن يستدرجوا نيرمين لكي يسهل عليهم قتل الاثنين معا، أوهموه بالأمان تماما كما استبق قائد الوحدات الصربية راتكو ميلاديتش مذبحة سربرينيتشا بخطابات للمدنيين المذعورين تعدهم بالأمان وتطلب منهم أن لا يخافوا، ثم شرعت قواته في مذبحة استخدمت فيها شتى أنواع الأسلحة ضد مدنيين عزل.
تلذذ المجرمون وتفننوا في أشكال التعذيب في خطوات ممنهجة تهدف لإزالة مسلمي البوشناق من المنطقة في محاولة لإقامة "صربيا الكبرى". سربرينيتشا لم تكن حربا بل كانت نموذجاً متكاملاً للتطهير العِرقي. لقد أعدم الصرب الآلاف وألقوا بجثثهم في مقابر جماعية باستخدام جرافات، بينما دفنوا البعض أحياء. أجبروا الآباء على مشاهدة أبنائهم وهم يُقتلون، وقتلوا الآباء أمام أطفالهم الصغار...
وبالرغم من توثيق جرائم الصرب وعملية التطهير العرقي في سربرينيتشا وغيرها إلا أن الحكومة الصربية المجرمة اكتفت بالاعتذار عن المجزرة، بينما ترفض تسميتها عملية إبادة جماعية. وبالرغم من هذا الإنكار فلا زال حكام الضرار يقيمون العلاقات مع الصرب ويعقدون الصفقات التجارية ويتبادلون التهاني مع المجرمين!!
أخيرا وبعد سنوات من الانتظار، دفنت صالحة رفات زوجها المغفور له بإذن الله رامو أوسمانوفيتش وابنها نيرمين أوسمانوفيتش في مقابر بوتوشاري ولكنها لم تدفن معهما أَلَمَ تلك اللحظة التي قتلا فيها وصيحات رامو وكأنه يستغيث فلا يغاث.
خطر ببالي وأنا أتابع ذلك المشهد الأليم في حياة صالحة أوسمانوفيتش قصة فتح عمورية وتلك المرأة التي صاحت وا معتصماه، امرأة لا نعرف لها اسما غير أن الدولة الإسلامية حركت جيشا لأجلها، لا نعرف تفاصيل ما سبق "وا معتصماه" بينما نعرف عمورية وحصوناً فُتحت نصرة لامرأة استغاثت فأغيثت... نعم نعرف ألف ألف صالحة، نسمع تفاصيل مأساتها ونرى في عيونها دموعا جفت وتجاعيد تجسد حسرة على أمة خذلتها ولم تنصرها... وفي كل ذكرى لسربرينيتشا تظهر قصة جديدة أوجبت أن تحرك لها الجيوش.
أطلت علينا صالحة أوسمانوفيتش أمام محاورها في لقاء متلفز في وقار وسكينة تفرض نفسها وتجعل من يشاهد المقطع يتساءل، من أين لها كل هذه القوة وهذا الصمود؟ بينما اكتفى حكام المسلمين برمزية إحياء ذكرى المجزرة ومقولة "لن ننسى.. لن نغفر"، دون أن تتبع تلك الكلمات خطوات جادة تعيد الحق لأصحابه وتحقق الأمن والأمان للمسلمين!
لقد اختار أهل البوسنة الإسلام واعتنقوه عن قناعة، ولم تزدهم المجازر والأهوال إلا قرباً من الله ويقينا أن الأمر بيد الله من قبل ومن بعد.
﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ﴾
كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
هدى محمد (أم يحيى)