مفاهيم ينبغي أن تصحح
العرف و موقف الشرع من العرف
طالب جنان الخلد
العرف في اللغة بمعنى المعرفة، والشيء المعروف أي المألوف المستحسن، ومنه قوله تعالى: " خذ العفو وأْمُرْ بالعُرفِ وأعرِضْ عن الجاهلين " أي أؤمر بالجميل من الأفعال. ويطلق العرف ويُراد به العادة المنتشرة بين جماعة معينة، وبعبارة أخرى هي الأعمال المكررة من أفراد جماعة معينة.
إذِ العادة هي الفعل الذي يكرره الفرد ويرتاحُ له، فإذا انتشرت هذه العادة بين الجماعة، وفعَلَها معظمُ الأفراد أو كلهم، صارت عرفاً. فالعرف في الحقيقة هو عادة الجماعة؛ ولذلك يكون الحكم على الشيء بحسب العرف إذا كان حكماً مستنداً إلى ما اعتاده جمهور الجماعة؛ وبذلك يكون العرف في الأعمالِ، لا في الألفاظ، ولا في التقديرات للأشياء.
أما الاصطلاح: فهو اتفاق جماعة على إطلاق اسم معين على شيء معين، أي جعل المعين يطلق عليه اسم معين، ومن ذلك اللغات والاصطلاحات الخاصة، كاصطلاح أهل النحو، أو أهل الطبيعيات، أو اصطلاح قرية، أو قطر، أو ما شاكل ذلك. فهذه كلها اصطلاحات. وما يطلقون عليه (الحقيقة العرفية) هي من الاصطلاح، وليس من العرف، إذ هي تعارف القوم على إطلاق اسم معين على معنى معين، فهو كالاصطلاح اللغوي سواء بسواء، من حيث إنها اصطلاح، لا من حيث اعتبارها من اللغة، فهي مجرد اصطلاح، وليس من قبيل العادة والعرف، إذ هو يتعلق باستعمال بعض الألفاظ في معان يتعارف الناس على استعمالها، وهذا هو الاصطلاح بعينه.
يعتبر بعض المجتهدين العرف أصلاً من أصول التشريع، ودليلاً من الأدلة الشرعية، ويستدلون به على كثير من الأحكام الشرعية،
ويقسمون العرف إلى: عرف عام، وعرف خاص.
ويمثلون للعرف العام بالاستصناع، وذلك أنَّ الناس اعتادوا استصناع حاجاتهم من أحذية وألبسة وأدوات وغير ذلك، فيجيزون التعامل بها ولو كانت من قبيل المعدوم؛ لأن العُرفَ أجازه، ويعتبرونه دليلاً على جواز هذه المعاملة.
ويمثلون للعرف الخاص باصطلاح بعض التجار على أن يكون البيع المؤجَّل مُقسَّطاً إلى مدة لا تزيد عن كذا شهر، كستة أشهر مثلاً، فإن هذا العرف يحكم عند الدفع ولو لم يذكر عند العقد. ويقولون إن الشريعة اعتبرت العرف في قضايا متعددة؛ ولذلك يعتبرون الحكم المستند إلى العرف حكماً شرعياً مستنداً إلى دليل شرعي، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: " خذ العفو وأْمُرْ بالعُرفِ... " ويقولون: إنَّ الشرع أَمَرَ أن نأخذ بالعرف.
إن الآية التي استشهدوا بها على العرف قد أُقحِمَتْ إقحاماً فظيعاً في هذا الموضوع، ولا علاقة لها به، فإنَّ الآية مكية، وهي في سورة الأعراف ومعنى الآية: "خذ ما عَفَا لك من أفعال الناس وأخلاقهم وما أتى منهم، وتسهَّل معهم من غير كلفة، ولا تطلب منهم الجهد، وما يَشُقُّ عليهم حتى لا ينفروا"، كقوله صلى الله عليه وسلم : "يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا" أخرجه البخاري.
وأْمُر بالعرف: أي بالجميلِ مِنَ الأفعالِ، والعُرف المعروف هو الفعل الحسن. أما ما قالوا عنه إنه حديث: " ما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيء" فإنه قول لابن مسعود، وليس حديثاً؛ فلا يحتج به، فضلاً عن كونه لا دخل له بالعرف؛ لأنه ينص على ما رآه المسلمون لا ما تعارفوا عليه واعتادوه. أما الأعمال التي أقرها الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت من الأعراف والعادات، فإنه يعتبر العمل بها عملاً بالدليل الشرعي، وهو إقرار الرسول، وهو دليلٌ شرعي وليس عملاً بالعرف والعادة، ولا يُتَّخَذُ ذاك قياساً؛ لأن إقرار الرسول وحده هو المعتبر دليلاً شرعياً، ولا عبرة بإقرار غيره، فلا يقال إن الشريعة أقَرَّتِ العرف.
وأما ما اعتبره بعض الفقهاء حكماً شرعياً في العرف، فإن منه ما يتعلق بالاصطلاح، ومنه ما يتعلق بتقدير الأشياء.
أما الذي يتعلق بالاصطلاح، فلا شك في اعتباره عند الذين اصطلحوا عليه، وهو يتعلق بإطلاق أسماء على معانٍ لا بأفعال الإنسان، ولا بالأشياء.
وبذلك يكون قد سقط جميع استشهادهم بما اعتبره بعضُ الفقهاءِ حُكماً شرعياً في العرف بظهورِ أنَّه من الاصطلاح أو من التقدير، وكلاهما ليس من العرف فضلاً عن مجيء النص صراحة في التقدير للأشياء.
وبذلك بطل استدلالهم على فرض أن هذه المسائل والأحكام مما يصح أن تتخذ دليلاً، وخاصة على اعتبار أن العرف أصل ودليل من الأدلة الشرعية.
إنَّ العرف- وهو الأعمال المتكررة- يجب أن يُسيَّرَ بالشرع حتى تَسيرَ أفعال الإنسان حسب الأحكام الشرعية، سواء أكانت هذه الأفعال مكررة من الفرد كالعادة، أم مكررة من الجماعة كالعرف، أم غيرِ مكررة من أحدٍ وفُعِلَتْ ولو مرة واحدة؛ لأنَّ من المقطوع به أنه يَجِبُ على المسلم أن يُسيَّرَ أفعاله بأوامر الله ونواهيه، سواء كُرِّرَتْ أم لم تُكَرَّرْ؛ وعليه يجب أن يحكَّمَ الشرعُ بالأعراف والعادات، ولا يجوز اعتبار العرف والعادة دالَّيْنِ على صحة الفعل أو عدم صحته، بل المعتبر هو الشرع فحسب، ولذلك لا يجوز اعتبار العرف دليلاً شرعياً، ولا قاعدة شرعية مطلقاً.
والعرف إما أن يكون مخالفاً للشرع أو غير مخالف، فإن كان مخالفاً للشرع، فالشرع جاء ليزيله ويغيره؛ لأنَّ من عمل الشريعة تغيير الأعراف والعادات الفاسدة. وإن كان غير مخالف للشرع يثبت الحكم بدليله وعلته الشرعية، لا بهذا العرف، ولو لم يخالف الشرع.
وعلى ذلك فلا يحكّم العرف بالشرع، وإنما يحكّم الشرع بالأعراف والعادات.
إنَّ أصل الأدلة الشرعية هو الكتاب والسنة، فهما الدليلان الأصليان، وما ثبت فيهما أنه دليل شرعي كالإجماع والقياس يُعتَبَرُ دليلاً شرعياً، وما لم يثبتْ فيهما أنه دليلٌ شرعي لا يعتبر دليلاً شرعياً، وبما أنه لا يوجد أصل للعرف والعادة لا في الكتاب، ولا في السنة، ولا في إجماع الصحابة، فلا اعتبار للعرف مطلقاً. إذْ لا اعتبار لأي دليل شرعي إلا إذا نصَّ عليه الكتاب أو السنة. أما ما استدلوا به على العرف من الحوادث فهو خاص بتلك الحوادث، وليس إجازة عامة للعرف بصورة عامة، وهو دليل على حوادث معينة، وليس دليلاً على أن العرف دليل شرعي.
إن الأعراف والعادات منها الحسن ومنها القبيح، ولا شك أن العادات القبيحة والأعراف القبيحة غير مُعتبَرةٍ شرعاً بالاتفاق، فما الذي يميز القبيح أو الحسن؟ هل هو العقل أم الشرع؟
أما العقل فلا يعتبر مميزاً الحسن من القبيح؛ لأن العقل محدود ويتأثر بالبيئة والظروف، وقد يرى شيئاً حسناً اليوم ويراه غداً قبيحاً، فإذا تُرِكَ تقدير العُرْفِ الحَسَنِ من العرف القبيح للعقل أدى ذلك إلى اضطراب أحكام الله وهذا لا يجوز؛ ولهذا كان لا بد من أن يكون الشرع وحده المُعْتَبَرَ في الحُكمِ على العُرف.
ومن هنا كان اعتباره متوقِّفاً على وجودِ نص في الحادثة تجعل اعتباره شرعياً حتى يعتبر، فيكون الدليل هو النص الشرعي وليس العرف.
إنَّ الأمثلة التي أوردوها جميعها ترجع إلى أحد أمرين:
- إما أن تكون صحيحة في الحكم ولكن الخطأ وقع فيها في التخريج، أو تكون خطأ في الحكم والتخريج. فإنْ كانت صحيحة في الحكم، فإنَّ الخطأ فيها قد وقع بجعل العرف دليلها؛ لأن لها دليلاً آخر غير العرف.
- وإن كانت خطأ في الحكم، فيكون الخطأ جاء من ناحية استناد الحكم إلى العرف وهو لا يجوز، وهي في جملتها لا تخرج عن ذلك، فمثلاً: يمين الشخص أن لا يضع قدمه في الدار راجع إلى الاصطلاح على اللفظ لا إلى العرف. وضمان الزيتون راجع إلى اصطلاح إطلاق اسم الضمان على بيع الثمر على الشجر لا على العرف. وكون الصديق يأكل من بيت صديقه راجع إلى القرآن الكريم في قوله تعالى: " أو صديقِكم " في آية: " أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت... " الآية. وأكل ثمر الشجر راجع للحديث الذي يجيز للمرء أن يأكل من ثمر الشجر على أن لا يحمل معه، وهو قوله عليه السلام: "لاَ قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلاَ كَثَرٍ" أخرجه أحمد، وقوله: "يَأْكُلُ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً" أخرجه أحمد، فأَكْلُ ما تَسَاقَطَ مِن الشَّجَرِ من باب أولى. وسكوت البكر جائز لقوله صلى الله عليه وسلم عن البكر: "إِذْنُهَا صُمَاتُهَا" أخرجه مسلم، لا للعرف. وبيع الدار وشِراءُ اللحم يَرجِع كل منهما إلى إطلاق اصطلاح كلمة الدار وكلمة اللحم على معنى معين، فهو راجع إلى الاصطلاح وليس إلى العرف. وكذلك مسألة الدراهم والدنانير. أما مسألة خياطة الثوب فهي راجعة لأجر المثل لا للعرف. ومسألة الزوجةِ خطأ في الحكم وفي الدليل، فالحق لا يسقط بالعرف، ولا يصلح العرف دليلاً على سقوطه، وإنما يجب أن تسمع دعواها، فإن أثبتتها حكم لها بمهرها، بغض النظر عن العرف.
وبذلك يظهر بطلان اعتبار العرف دليلاً شرعياً. ولا يوجد دليل شرعي قد ثبت كونه دليلاً شرعياً بالنص الشرعي سوى: القرآن، والحديث، وإجماع الصحابة، والقياس، وما عداها فلا قيمة له بالاستدلال على الأحكام الشرعية.
هذا من ناحية فساد كون العرف دليلاً شرعياً، أما فساد كونه قاعدة شرعية، فإنَّ القاعدة هي حكم كلي أو حكم عام. والعُرف لا هو حكم كلي؛ لأنه ليس له جزئيات، ولأنه لم يقترن به ما هو بمثابة العلة له. وليس هو حكماً عاماً إذ ليس له أفراد تدخل تحته، وعلاوة على ذلك، فإنه لم يستنبط من نص شرعي، لا من الكتاب، ولا من السنة، كما لم يكن هناك إجماع من الصحابة عليه؛ وبهذا لا يعتبر قاعدة شرعية.
من مجلة منهاج النبوة العدد الرابع
رابط المقال:
http://mnhajalnbooa.com/vb/showthread.php?t=15