الثورات العربية والسكون المريب08-3-2011
ففي الوقت الذي تسال فيه أنهار الدم، نجد أن قنوات مثل 4شباب، اقرأ، بداية، والمجد، بكل قنواتها تواصل عرضها الرتيب وبرامجها الثابتة، وكأن طواقمها العاملة يطلون علينا من كوكب آخر غير الكوكب الذي نعيش فيه!! ها هي الشعوب العربية في أكبر أجزائها تنتفض على الطغيان السياسي وتثور على الرتابة والجمود، ومع ذلك تبقى عامة القنوات الدينية في سبات عميق ونوم شديد، ثم تصحو إذا ما صحت في مجمل ساعات البث، ساعة أو ساعتين، فتخبرنا بالنزر اليسير
بقلم مريم عبدالله النعيمينعم، مع كل هذه الثورات العربية الباسلة والشجاعة والأبية ما زال البعض ينشر الضعف بتفنن وإتقان يحير أكبر العقول، بل ويستدعي دهاة الطب النفسي لكي يبادروا بتحليل وشرح طبيعة نفسيات القائمين والعاملين على أغلب الفضائيات الدينية!!
إذ رغم أن هذه الثورات العربية التي هزت عروش الحكام وأطارت النوم من جفون أباطرة المال الحرام وأعادت من جديد رسم الصورة النقية للعرب الأحرار، أقول رغم كل ما يجري من حراك سياسي أذهل العالم من أقصاه إلى أقصاه، وقفت الفضائيات الدينية في المجمل من هذه الثورات الشجاعة وقفة لا تعبر على الإطلاق لا عن ضمير الأمة ولا عن نهجها الحالي في التضامن والولاء والإخاء!!
هذه الثورات التي جعلت من الأطفال رجالا بواسل، ومن الشباب شيوخا حكماء، وصاغت من الفتيات نماذج جديدة في حب الأوطان ونشدان الكرامة، لم تستطع بكل ضخامتها وزخمها وهديرها ودمائها وفورتها وثورتها، أن تجعل القنوات الدينية تغير مسارها المسالم لتصافح تلك الثورات وتقف بكل قواها إلى جانبها!!
ففي الوقت الذي تسال فيه أنهار الدم ـ أثناء كتابة هذه السطور ـ غزيرة في ليبيا، نجد أن قنوات مثل 4شباب، اقرأ، بداية، والمجد، بكل قنواتها تواصل عرضها الرتيب وبرامجها الثابتة، وكأن طواقمها العاملة يطلون علينا من كوكب آخر غير الكوكب الذي نعيش فيه!!
وكم مرة سألت نفسي، وأنا أشاهد القنوات الحرة، أو حتى المقيدة بسلطة رسمية أو شبه رسمية، عن موقع القنوات الدينية مقارنة بتلك التي تتابع اللحظة باللحظة ما يجري في تونس ومصر وليبيا واليمن والعراق والبحرين والأردن وصولا إلى التحركات الخفيفة في الجزائر والمغرب، فلا أجد جوابا مقنعا أو مكانة مميزة استطاعت القنوات الدينية أن تحققها في هذا المضمار!!
فما زالت قنواتنا الدينية تواصل عروضها مع الإنشاد والغناء الديني المصحوب بالإيقاع الموسيقي المتنوع، بعد أن تحقق القبول والاقتناع بأن الموسيقى الهادفة مباحة بإطلاق!!
هكذا نجد قناة 4شباب على سبيل المثال وفي الساعة الخامسة عصرا قبل عدة أيام، تواصل بث أغاني لمجموعة متنوعة من المغنين الدينين، بدءا بأغاني الراب nativedeenثم لسامي يوسف المغني البريطاني المعروف، ثم لمغني من فلسطين، وآخر من الإمارات!!
كانت الأغاني الدينية كالعادة تضرب على وتر العواطف الدينية، ثم هي مصورة بطريقة الفيديو كليب، حيث نرى لقطات حية ومتنوعة ومتزاحمة بالمئات لذلك المنشد أو المغني المبتسم المسالم الذي تتوالى لقطات الفيلم الغنائي في عرض مشاهد مختلفة له تتناسب مع كلمة ولفظة يتلفظ بها.
هكذا يبدو الجو سعيدا لطيفا مؤنسا محببا للناظرين، فلا دماء في ليبيا تجبر تلك القنوات على قطع بثها والاندماج مع القنوات الإخبارية النزيهة، ولا عشرات اللقطات القادمة عبر هواتف الليبيين الجوالة الذين يتلقون الرصاص الحي بصدورهم العارية إلا من الإيمان والثقة بعدالة مطالبهم، نجحت في تغيير مسار القنوات الدينية التي تغني خارج السرب وتغرد بعيدا عن الأسراب المحلقة بعيدا في سموات الخلود والصمود والعزة!!
ليس شيئا من تلك الدماء الزكية، ولا من صور الأكفان المضمخة باللون الأحمر المصبوغة بلون الكرامة والشموخ، يجبر فضائياتنا الدينية العتيدة على الالتحام بما يجري في أرض الحقيقة والواقع!!
ذلك الواقع الذي أجبر قنوات روسية وفرنسية وبريطانية على التفاعل معه ومتابعته لحظة بلحظة، بينما غفلت تلك القنوات الدينية، التي لطالما أعلن القائمون عليها أن إطلاقها يجسد حالة تفاعل مع قضايا الأمة وحرصهم على تنوير الوعي وإضاءة الحكمة في القلوب الغافلة.
سبحان من قسم الأرزاق، ومنها العقول والأحلام والرؤى والعزائم، سبحان من علمنا الفرق بين النائحة والثكلى، وأظهر لنا مقدار البون الشاسع بين من يعتصم في ميدان التحرير طلبا للحرية وبين من يمارس بوعي أو بغفلة دور التخدير لمشاعر الأمة وإنقاص مستوى التضامن الذي يجب الآن أن يصل إلى أعلى مستوى ممكن.
حاولت جهدي طيلة الأيام الماضية أن أبحث لهؤلاء عن تبرير، لكني عجزت ولم تسعفني معلوماتي الدينية أيضا، والتي تحرض المسلمين على المشاركة وإظهار التضامن في الأفراح والأحزان، في إيجاد تبرير مقنع لهذه اللامبالاة ولهذا التخدير الغريب لوعي المشاهد وضميره ودوده!!
أتساءل: ما معنى أن يتسمر المشاهدون خلف برامج إفتاء في بعض مسائل الفقه التي قتلت عرضا وتبيانا طيلة السنوات الماضية، مقابل تجهيله وإبعاده عن ساحات التلاحم والتضامن ولو بمتابعة القنوات الإخبارية الرصينة والجادة كالجزيرة وبي بي سي وفرنسا24 وحتى قناة الحرة التي دخلت في السباق بكل ثقلها، ووجدنا منها تغطية غير مسبوقة لأحداث ليبيا، إضافة للعربية التي مهما اختلفنا معها، فما زالت طواقمها تتابع وترصد وتوالي عرض الأخبار والمزيد من الأخبار عن الثورات العربية الناشدة للتحرر والحياة الكريمة؟!!
لقد كرر القائمون على القنوات الدينية منذ سنوات خلت وما زالوا يرددون بأن الهدف الأسمى لقنواتهم هو استثمار طاقة الشباب وإعادة بناء نهضة الأمة، وتقديم إعلام هادف وبديل يطور عقل المتلقي ويسهم في تهذيب مشاعره، لكن الفتات من الأخبار العابرة عن الثورات العربية في تونس ومصر وليبيا لا تشكل على الإطلاق الأدوات الصحيحة التي بها يبنى ضمير الجمهور المقصود بالرسائل التنويرية؟!!
إن قنوات مثل المجد، الرسالة، اقرأ، و4 شباب، إذا ما اهتمت بالثورات التحررية، فإنها تعطيها القليل القليل من الوقت ومن خلال تعليقات مقتضبة وسريعة مع ضيوف برامجها الاجتماعية، فهل بهذه التعليقات السريعة يبنى التنوير ويتراكم الوعي وتتحقق النهضة المطلوبة؟
وأي عاقل لديه بعض المعرفة وليس كثيرها، يعلم علم اليقين أن دروس الكرامة ونشدان الحق هي اليوم متاحة بالمجان، وتبلغ بكثافتها وقوتها وعنفوانها وتأثيرها ما لا تستطيع مئات القصص عن الثورات التحررية في الماضي أن تفعله.
والتجربة الماثلة الحية التي قاربت الثلاثة أشهر، والتي تتزاحم فيها صور وأقوال ومواقف، تنتظم جميعا لخدمة مشروع النهضة العربية الوشيكة، لهي أكثر من كافية لصناعة إعلام حي يعيد للمشاهد ثقته بنفسه أولا وبأمته ثانيا وبالغد ثالثا، وفوق ذلك يستزيد إيمانا بعدالة الله وانتقامه الأكيد من الظالم وإن طال الليل على المظلومين واشتدت المحن.
إن ما جرى ويجري من مواقف مليونية للباحثين عن العدالة المضحين بأرواحهم في سبيلها، لهي أكثر من كافية لتقدم دروسا في العزة والكرامة والروح العالية، كان من الواجب أن يستفيد منها صناع الإعلام في القنوات الدينية العتيدة.
لعل المرء يسأل ويحق له هنا السؤال ماذا يمكن لأناشيد الراب لفرقة nativedeen الأميركية، أن تؤثر، مقارنة بفعل الشهداء الشباب الذين سقطوا في مصر وتونس وليبيا واليمن؟!!
ماذا أفادت تلك الكليبات الغنائية مقابل مئات الكتابات التحليلية التي استلهمت من شجاعة مجتمعات الثورة العربية الحالية، التي وجدنا فيها من التلاحم والتواصل والتنسيق المشترك ما فاق التوقعات وجاوز الحسابات، وزاد على أكبر الأمنيات في التحرر الداخلي من الطغيان السياسي؟!!
إن بقاء القنوات الدينية على أسلوبها القديم في عرض برامجها الاجتماعية التي تناقش تربية الأطفال والعلاقة بين الزوجين وغيرها من الموضوعات، التي يعد عرضها حاليا إضعافا لروح التضامن وصرف الناس عما يجب أن يشاهدوه عن الجزء الحي من العرب، والذي يعيد اليوم رسم خارطة طريق للعقول التي علاها الصدأ واستوطنها الران وأضعفها حب الدنيا وكراهية الموت.
ها هي الشعوب العربية في أكبر أجزائها تنتفض على الطغيان السياسي وتثور على الرتابة والجمود، ومع ذلك تبقى عامة القنوات الدينية في سبات عميق ونوم شديد، ثم تصحو إذا ما صحت في مجمل ساعات البث، ساعة أو ساعتين، فتخبرنا بالنزر اليسير والكم القليل، وما تيسر من أخبار الثورات العربية في بث مقتضب وأوقات يسيرة، لا تكاد تفي بالغرض، ثم تعود الطيور إلى أوكارها وتسكن في أوطانها وتعيد بث برامجها التنظيرية البعيدة عن ملامسة الواقع.
والسؤال الملح: أي نوع من الحياة يبشر بها أصحاب هذه القنوات العتيدة، وأي نمط من السلوك ينشدونه للأمة حين أطلقوا قنواتهم؟!!
إذا ما كانوا يريدون إيقاظ الأمة، فها هي تستيقظ وتصحو من نومها الطويل فلماذا إذن ينامون هم ويظهرون بمظهر المتأخر كثيرا عن متابعة الركب ومسايرة واقع الأمة وفهم لغتها الجديدة القوية التي يبدو أنها تستصعب على فهمهم!!
ختاما، ورغم هذا النقد الشديد الذي أظهر خيبة الأمل الكبرى في عدد من القنوات الكبرى الدينية، أقول بأن القافلة تمضي، ومواكب الشهداء طارت لخالقها وسبحت بحمده، وأولئك الفرسان الذي هبوا لنجدة أوطانهم لا يضرهم من غفل عنهم وضعف عن استيعاب دورهم الكبير، كما أن الجمهور الحي من المحيط إلى الخليج فيه العزاء الكبير، وإن أمة يلتف أبناؤها ليباركوا ثوراتها المشروعة لهي أمة حية قوية كبيرة فاعلة، وإن نام جزء منها فلا لوم ولا تثريب إذ كل إناء بما فيه ينضح وكل وعاء بما فيه يفيض.