إنّ وجود أكثر من جماعة وتنظيم إسلاموي يعبّر عن انقسامات حادة في الرؤى والمفاهيم التي التقطت بعض الخيوط والمسائل الفقهية والفكرية الفرعية لتكون سلاحها للتميز والتفرد عن غيرها، وكثير من العناصر المنضوين معها لا ينتبهون إلى وجود هذا النوع من الاختلاف، ويظنون أنّ كل المسائل المختلف عليها تبرر معاداة المخالف، وهذا مما قد يُوجِد من أسباب الفساد والضغائن والتعادي ما لا يعلمه إلا الله.
التفرق المنهي عنه
إنّ التفرق منهيّ عنه إذا كان على أساس فكري معيّن أو عقيدة من العقائد التي يتوقف عليها الإيمان والكفر، وهو كذلك منهيّ عنه إذا كان في مجال الفروع ويدفعنا إلى الاختلاف، ولا مانع أن نختلف، ولكن أن يكون اختلافنا هو الذي يجعل الأمّة متفرقة ومتنازعة ويكرّس من فرقة المسلمين وتشرذمهم ويقطع أوصالهم، فهذا هو الخطأ الفادح، وللأسف نرى أنّ الخلافات بين الجماعات الإسلامية ما زالت محصورة في إطار الاجتهادات في الفروع وفي الوسائل التي تميز واحدةً عن الأخرى.
لا مانع أن نختلف ولكن بشرط ألا يجعل ذلك الأمّة متفرقة ومتنازعة
إنّ هذا المسلك هو الذي أهلك الأمّة من قبل، حين طغت العصبية المذهبية وتفرقت الجموع حول مسائل فرعية في الدين في وقت كانت تحتاج فيه إلى الوحدة والتكاتف، يقول ناصر بن سليمان العمر، في كتابه ثوابت الأمّة في ظل المتغيرات، بمؤتمر الآفاق المستقبلية بالكويت: "من المفترض أنّ التباين في تلك الثوابت النسبية لا يوجب عداوة وشقاقاً، بل هو تباين يرجع في الحقيقة إلى نوع ائتلاف".
فكيف نصل إلى هذه الحكمة ونوجه الإرادة إليها؟ يقول بيان علماء الأزهر الذي تم نشره العام 1991 في كتاب حمل الاسم نفسه: "لا يجوز أبداً إغلاق الفكر على معلومات معينة من مصدر واحد مهما كان قدر هذا المصدر، فقد سبق قول الأئمة في ذلك، فإذا جاء بعض الغلاة ورفضوا كل نقاش فيما يعتقدون ممّا تلقوه عن أميرهم فقط، ومن أميرهم هذا؟ وما منزلته بين العلماء الذين هم ورثة الأنبياء؟ كان هؤلاء مخالفين لأدب البحث والعلم".
الانتماءات تدفع إلى العداوة
إنّ الحالة التناحرية السائدة بين كثير من الجماعات والأنظمة وبين الجماعات مع بعضها بعضاً تعكس مظاهر التأزم في بنية الفكر وبنية التنظيمات على مستوى الأفكار والأشخاص، وكما يقول معتز الخطيب في العمل الدعوي بين وصاية الشيخ ونصرة الدين، المنشور في فصلية المنار: "إنّ المتأمل للواقع يجد ثمّة خلافاً داخل الجماعات ذات الأولوية الواحدة سلفية كانت أم صوفية أو غير ذلك، إضافة إلى علاقة التناحر التي تعود إلى أسباب منها ما هو شخصي ومنها ما هو منهجي".
هل حانت نهاية "الإسلاموية الجديدة" في الشرق الأوسط؟
إنّ هذه الأسباب الشخصية والمنهجية والتعصب لها هو الذي دفع إلى هذه الحالة من التناحر، وليس المنافسة والسباق لخدمة الإسلام، بل وصل في أحيان كثيرة إلى الاقتتال والعداوة والنزاع على السلطة والمواقع، وأفغانستان والجزائر خير مثل على ذلك، والحقيقة أنّ كثيراً ممّا يجري بين الجماعات المعاصرة من اختلافات مريرة على المناهج والأفكار والأولويات سببه حبّ الرياسة وكثرة الأتباع، وإلا ما أثمرت هذه الثمار المرّة في التعاملات التي تجري بين هذه الاتجاهات وأفرادها.
الانتماء الحقيقي حينما يكون للإسلام وأحكامه سوف يصيغ علاقات جيدة وجديدة بين أنفسنا ومع الآخر
وتنتشر العلاقات التناحرية وتصبح ظاهرة عامّة من أجل التنازع على مواطن النفوذ، هذا ما شاهدناه من اقتسام الخطابة في المساجد وحق الجماعات في كسب المزيد من الأفراد، وهذا كله يشوش مفهوم الدعوة إلى الله سبحانه، بالإضافة إلى محاولة انتزاع النفوذ من الدولة وعلمائها ودعاتها باعتبارها فريقاً آخر مغايراً للجماعة، والمفترض أن تكون البنية التنظيمية على قاعدة الأخوّة، وتعكس جانب عزل الخطأ عن المؤثرات الفكرية وتعكس الشفافية، ولكنّ شخصنة الدعوة في شخص واحد هو رئيس الجماعة جسّد حالة الفرد وعلاقاته، وهنا يفهم الولاء والبراء على أساس ذلك الاجتماع، والغريب أنّ ذلك هو ما حذّر منه ابن تيمية، الذي يستندون إليه، قائلاً في الفتاوى الجزء الـ11، صفحة 92: "فإن حملهم التحزّب على التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والإعراض، فمن لم يدخل في حزبهم سواء أكان على الحق والباطل، فهذا من التفرق الذي ذمّه الله ورسوله".
المغرب - أفغانستان: الإسلاموية الحائرة!
إنّ الانتماء الحقيقي حينما يكون للإسلام وأحكامه سوف يصيغ علاقات جيدة وجديدة بين أنفسنا نحن المسلمين وبين العالم وبين الجماعات والأنظمة، لا تقوم على العداوة بل على منهج آخر، وهو الذي يدفعنا إلى مدّ جسور التقارب، ويجعلنا نخلص إلى إجابة تعرفنا أنّ الذين لا ينتمون لتنظيمات هم إخواننا في الدين، وأنّ الدعاة الحكوميين كذلك، ولكنّ المتعصب لا يؤمن إلا بالقول نفسه، ولا يؤمن بأحد غيره أو غير فرقته وجماعته التي ينتمي إليها، فمنها يبدأ وإليها ينتهي.
الاعتصام والجوامع المشتركة
إنّ الداعية بحق إلى الإسلام هو الذي يبحث عن الجوامع المشتركة للالتقاء بالمسلمين، وهي كثيرة في الساحة الفكرية، وأن يزيل ما بينه وبين أهل الوطن الواحد من حجب، ويخطو على طريق الوفاق لا إلى الخصام، والتفاهم لا القطيعة، وهو ما اعترف به ياسر برهامي أحد زعماء السلفيين بمصر في كتابه فقه الخلاف قائلاً: "لكننا ندعو ألّا نجعل من تلبس بعض العاملين للإسلام في هذا العصر بشيء من البدع حائلاً يحول دون نصرتهم على ما عندهم من الحق والتنسيق معهم لجمع الأمّة على كلمة سواء من ناحية، كما ندعو إلى بذل النصيحة لهم والإنكار عليهم بما لا يؤدي إلى مفسدة أعظم".
لذا ففي سبيل الجوامع المشتركة والاعتصام فإنه من الخطأ الفادح أن يتصوّر البعض أنّ جماعته هي الأقرب للحق، وأنّ ما عداها قد انحرف عن ذلك، وأنه لا يوجد في الإسلام تعددية تستطيع أن تعبّر عن ذاتها وأفكارها.
شخصنة الدعوة في شخص رئيس الجماعة جسّد حالة الفرد وعلاقاته
وكذلك إذا كان في الإسلام تعددية، فإنّ هذه الجماعات لا تجعلنا بالضرورة نقرّ بمخالفتها للصواب ولا الرضا بما هم عليه من الباطل، ولا نقرّ بتحقير أعمال الناس، فإنّ النظرة المريضة للاستعلاء على أصحاب العلوم والأعمال الصالحة الأخرى التي لا تهتم بها الجماعة التي ينتمي إليها الفرد باعتبار أنّ الأولويات التي تحددها جماعة هي وحدها الحائزة على الصواب، فهي لا تجوز.
وإذا كان الانتماء والتعصب هو الخطأ الكبير والفادح، وأنّ التعددية في الوقت نفسه جائزة، فإنّ هذا يمثل أسلوباً في إدارة الاختلاف يجب أن يقوم على الاعتراف المتبادل وليس على الإنكار، لأننا مهما حاولنا، ولو كنا مخلصين، فلن نستطيع رفع الخلافات في العلم والفقه، وهذه المحاولة تزيد الخلاف وتوسّع دائرته، مثل الذين حاولوا أن يمنعوا التمذهب فلم يزيدوا إلا أن كوّنوا مذهباً جديداً.
من هنا نؤكد على أنّ التعددية لا تدفعنا إلى التعصب والخروج عن المألوف والهجرة من المجتمع إلى جماعة تتوسع وتأخذ حجماً كبيراً وتشكل مجتمعاً جديداً، لأنّ التجارب أكدت أنّ أغلب الفصائل والتنظيمات قد أصابها الجمود والعيوب الهيكلية والتنافسات الإدارية التي أدت إلى التوترات والصراعات، لأنّها تأسّست على أنها لا تؤمن بالتعددية أو تعترف بالآخر.
المصدر :
https://hafryat.com/ar/