لغة لها أعداء
لم تعرف أمةٌ أو شعبٌ مكانة لِلُغتها كما عرف العرب مكانة لغتهم، ولم ترقَ لغة في الأرض إلى المستوى الذي رقيت إليه لغة العرب، فقد كانت عندهم البضاعة والصناعة، يقيمون لها أسواقاً يجتمع فيها الشعراء والأدباء والرواة من كل مكان، ومحكِّمون يُميّزون غثّها من سمينها، وجوائز تعطى لأعذبها وأنقاها منطقاً، وتُعلّق أجمل مقطوعاتها على أبواب الكعبة -أقدس أماكنهم شرفاً-.
وفي غمرة عزّهم وفخرهم بتلك البضاعة، جاءهم قرآن من ربهم يتحدّاهم في أعظم ما يملكون، يتلو عليهم آياتٍ أذهلهم جمالها، وهزّتهم روعتها، وخَلَبَ ألبابَهم إحكامها، فما كان منهم إلاّ أنْ أقرّوا بصدقها، وآمنوا بها حقاً من عند بارئهم إلاّ من استكبر منهم وأبى، وبذلك رفع الله مكانة لغتهم من عليٍّ إلى أعلى، وشرّفها بأن جعلها لغة القرآن الكريم، يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى في سورة يوسف "إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»: «وَذَلِكَ لِأَنَّ لُغَة الْعَرَب أَفْصَح اللُّغَات وَأَبْيَنهَا وَأَوْسَعهَا وَأَكْثَرهَا تَأْدِيَة لِلْمَعَانِي الَّتِي تَقُوم بِالنُّفُوسِ فَلِهَذَا أَنْزَلَ أَشْرَفَ الْكُتُب بِأشْرَف اللُّغَات عَلَى أَشْرَف الرُّسُل بِسِفَارَةِ أَشْرَف الْمَلَائِكَة وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَشْرَف بِقَاعِ الْأَرْض وَابْتُدِئَ إِنْزَاله فِي أَشْرَف شُهُور السَّنَة وَهُوَ رَمَضَان فَكَمُلَ مِنْ كُلّ الْوُجُوه».
نعم، إن لغة القرآن العظيم أفصح اللّغات وأوسعها على الإطلاق، وهذا ما أقرّ به أعداؤها قبل علمائها:
1ـ يقول المستشرق الفرنسي «رينان»: «من أغرب المُدْهِشات أن تنبتَ تلك اللّغةُ القوميّةُ وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحاري عند أمّةٍ من الرُحّل، تلك اللّغة التي فاقت أخواتها بكثرةِ مفرداتها ودقّةِ معانيها وحسنِ نظامِ مبانيها، ولا نعرف شبيهاً بهذه اللّغة التي ظهرت للباحثين كاملةً من غير تدرّج وبقيت حافظةً لكيانها من كلّ شائبة» (مجلة اللّسان العربي، 24/8).
2ـ قال المستشرق الألماني «يوهان فِك»: «إنّ العربية الفصحى لتَدين حتى يومنا هذا بمركزها العالمي أساسياً لهذه الحقيقة الثابتة، وهي أنها قد قامت في جميع البلدان العربية والإسلامية رمزاً لغوياً لوحدة عالم الإسلام في الثقافة والمدنية، لقد برهن جَبَروت التراث العربي الخالد على أنه أقوى من كل محاولة يقصد بها زحزحة العربية الفصحى عن مقامها المسيطر» (الفصحى لغة القرآن ، أنور الجندي).
3ـ قال المستشرق الألماني «نولدكه» عن العربية وفضلها وقيمتها: «إنّ اللّغة العربية لم تَصِرْ حقّاً عالميةً إلاّ بسبب القرآن والإسلام ...وهكذا كان لا بُدّ أنْ يكون لهذا الكتاب من التأثير على لغة المنطقة المتّسعة ما لم يكن لأيّ كتابٍ سواه في العالم ..» (اللّغة العربية، نذير حمدان).
4ـ قالت المستشرقة الألمانية «زيغريد هونكة»: «كيف يستطيع الإنسان أنْ يُقاوم جمالَ هذه اللّغة ومنطقَها السليم وسحرَها الفريد؟ فجيران العرب أنفسهم في البلدان التي فتحوها سقطوا صرعى سحر تلك اللّغة، فلقد اندفع الناس الذين بقوا على دينهم في هذا التيار يتكلمون اللّغة العربية بشغفٍ، حتى إنّ اللّغة القبطية مثلاً ماتت تماماً، بل إنّ اللّغة الآرامية لغة المسيح قد تخلّت إلى الأبد عن مركزها لتحتلّ مكانها لغة محمد» (عن كتاب : شمس العرب تسطع على الغرب).
5- يؤكد المؤرخ «دوزي» أنّ أهل الذوق من الإسبان بهرتهم نصاعة الأدب العربي واحتقروا البلاغة اللاتينية، وصاروا يكتبون بلغة العرب الفاتحين، فاللّغة العربية ظلت أداة الثقافة والفكر في إسبانيا إلى عام 1570م، ففي ناحية «بلنسية» استعملت بعض القرى اللّغة العربية لغة لها إلى أوائل القرن التاسع عشر» (تاريخ مسلمي اسبانيا، الجزء الأول).
6ـ وعبّر الأستاذ «ماسنيون» قائلا: «إنّ المنهاج العلمي قد انطلق، أول ما انطلق باللّغة العربية، ومن خلال العربية في الحضارة الأوروبية. إنّ العربية استطاعت بقيمتها الجدلية، والنفسية، أن تضفي طابع القوة على التفكير الغربي، إنّ اللّغة العربية أداة خالصة لنقل بدائع الفكر في الميدان الدولي، وإنّ استمرار حياة اللّغة العربية دولياً لهو العنصر الجوهري للسلام بين الأمم في المستقبل» (جوليوساني: ترجمة سعدون السويح).
أمّا أقوال أهل اللّغة أنفسهم فكثيرة نورد البعض منها:
(1) يقول أنور الجندي في كتاب (الفصحى لغة القرآن) ما أورده الحسن الزبيدي: «إنّ عدد الألفاظ العربية 6ملايين و 699ألفاً و 400 لفظ (6,699,400) لفظ أي سبعة ملايين كلمة تقريباً في حين أنّ اللّغة الإنجليزية لا تكاد تصل ألفاظها إلى النصف مليون لفظة».
(2) ويرى عبد الرحيم السائح أحد أساتذة الأزهر أنّ «اللّغة العربية أعرق اللّغات العالمية منبتاً، وأعزها نفراً: سايرها التاريخ وهي مهذبة، ناجحة مليئة بالقوة والحيوية، وبفضل القرآن صارت أبعد اللغات مدى، وأبلغها عبارة، وأغزرها مادة، وأدقها تصويراً لما يقع تحت الحس، وتعبيراً عما يجول في النفس».
وقد عمد الغرب -ضمن حملته على الإسلام- إلى ضرب اللّغة العربية التي هي وعاء الإسلام ولا يُحمل الإسلام إلا بها.
وقد بدأت أعمال الهدم في اللّغة العربية مبكراً، بل حتى قبل القضاء التام على كيان المسلمين السياسي المتمثل في الخلافة العثمانية.
فقد بدأت أعمال الهدم في اللّغة العربية مبكراً، بل حتى قبل القضاء التام على كيان المسلمين السياسي المتمثل في الخلافة العثمانية.
أما الذين حملوا معول الهدم فكانوا أصنافاً ثلاثة: إما مسلمون مضبوعون بالغرب وأفكاره، منحرفون عن دينهم، أو نصارى عرب متآمرون على ضرب الإسلام واللّغة العربية، أو مستشرقون غربيون.
فهذا من يسمى زوراً «عميد الأدب العربي» طه حسين يقول: «إنّ اللّغة العربية ليست مُلكاً لرجال الدين يُؤمَنون وحدهم عليها، ويقومون وحدهم دونها، ولكنها ملكٌ للذين يتكلمونها جميعاً، وكلُّ فردٍ من هؤلاء الناس حرٌّ في أن يتصرف في هذه اللّغة تصرف المالك ...» (المجموعة الكاملة لمؤلفات طه حسين). فهو يريد أن يُفقِد اللّغة أهميتها الدينية ويسلخها عن ارتباطها بالدين لتسير ما سارت إليه اللّغات البائدة، وما كتابه في الشعر الجاهلي إلاّ من هذا القبيل.
وأما (كارل فولرس) فكتب كتاباً اسماهُ: (اللّهجة العامية في مصر)، وقال في محاضرةٍ له عام 1893 «إنّ ما يعيق المصريين عن الاختراع هو كتابتهم بالفصحى، وما أوقفني هذا الموقف إلاّ حُبي لخدمةِ الإنسانية، ورغبتي في انتشار المعارف».
ولم يكن هذا الوباء في مصر وحدها؛ فهذا «إسكندر معلوف» اللبناني أنفق وقته في ضبط أحوال العامية، وتقييد شواردها لاستخدامها في كتابة العلوم؛ لأنَّه وجد أسباب التخلف في التَّمسك بالفصحى، ونحا ابنه عيسى نحوهُ فيقول: «إنَّ اختلاف لغة الحديث عن لغة الكتابة هو أهمُّ أسباب تخلفنا رغم أنَّهُ من الممكن اتخاذُ أيِّ لهجةٍ عاميةٍ لغةً للكتابة؛ لأنها ستكون أسهل على المتكلمين بالعربية كافة، ولي أملٌ بأن أرى الجرائد العربية وقد غيّرت لغتها، وهذا أعدُّهُ أعظم خطوةٍ نحو النجاح، وهو غاية أملي».
أما أحمد لطفي السيد «مفسد الجيل» والذي كان يُسمى أستاذ الجيل وهو مُنشئ الوطنية المصرية الحديثة، فقد أشاد باستعمال اللّغة العامية، ودعا إليها في كثير من المناسبات وأحمد لطفي السيد هذا تولى رئاسة مَجمع اللّغة العربية؛ فأيُّ مَجمع هذا؟
وكان للمغرب العربي نصيب من هذه الدعوة؛ فقد أصبحت اللّغة العربية لغة ثانية بعد الفرنسية «لغة المستعمر»، وجاء في تقرير أعدته لجنة العمل المغربية الفرنسية: «إنَّ أول واجبٍ في هذه السبيل هو التقليل من أهمية اللّغة العربية، وصرف الناس عنها بإحياء اللهجات المحلية واللّغات العامية في شمال إفريقيا» (الاتجاهات الوطنية في الشعر العربي المعاصر، لمحمد محمد حسين).
ويخرج علينا عضو في مجمع اللّغة العربية وهو «عبد العزيز فهمي» ليدعو عام 1913م لكتابة العربية بالحروف اللاتينية، وأصدر كتاباً يوضح فيه طريقته، جاء فيه بالعجب العجاب؛ فقد جمعَ نماذجَ للكتابة، يكتبها ويكتب تحتها ترجمتها بالحروف العربية، ويقول ناشر الكتاب: «ونجحت التجربة في تركيا، وهم يقرؤون اللّغة التركية بالحروف اللاتينية (الاتجاهات الوطنية).
هذا ما كان عليه الحال في أواخر القرن التاسع عشر من محاولات طمس معالم اللّغة العربية أو تهميشها أو استبدالها بلغات أجنبية.
ولكن تلك المحاولات لم تتوقف عند ذلك الزمان، بل استمرت حتى يومنا هذا.
الموضوع من منقول من المكتب الإعلامي لحزب التحرير