ألمانيا واليمين المتطرفأعلنت السلطات الألمانية، في 7 كانون الأول/ديسمبر 2022، عن تفكيك شبكة من أنصار جماعة يمينية متطرفة كانت تهدف للاستيلاء على السلطة عبر تنفيذ هجوم مسلح على مبنى البرلمان الألماني والسيطرة عليه، مؤكدة أنها عملية يتم التخطيط لها منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2021. وأعرب الرئيس الألماني، فرانك فالتر شتاينماير، عن قلقه البالغ من وصول أفكار المتطرفين إلى هذا المستوى غير المسبوق داخلياً. فيما وصفت وزيرة الداخلية الألمانية، نانسي فيزر، النشطاء الذين كانوا وراء هذا العمل بأنهم "متحدون في كراهيتهم للديمقراطية وللدولة الألمانية". وقد أُلقي القبض على 25 من أصل 52 مطلوباً من اليمينيين المتطرفين في عملية تمشيط واسعة شملت جميع أنحاء ألمانيا.
وقد أعلن المدعي العام الاتحادي الألماني، بيتر فرانك، أن المشاركين في عملية التخطيط للانقلاب هم من أتباع الأفكار الأيديولوجية لمجموعة "كيو أنون" التي تؤمن بنظرية المؤامرة، وهم من المنتمين إلى تيار "مواطني الرايخ"، وهو تيار ظهر في الثمانينات ولا يعترف بشرعية الدولة الألمانية الحالية، ويرفض أنصاره دفع الضرائب أو الانصياع للشرطة، ويُقدر عددهم الإجمالي بحوالي 20 ألفاً، من بينهم مجموعة صغيرة تُقدر بحوالي ألف شخص أصبحت منظمة للغاية منذ نهاية عام 2021، حيث تمتلك هيكلاً تنظيمياً مركزياً وجناحاً عسكرياً لدى أعضائه تراخيص بامتلاك الأسلحة. وقد ضمّت هذه الشبكة نبلاء وجنود نخبة سابقين وامرأة روسية ونائبة سابقة من اليمين المتطرّف.
وأضاف مدير مكتب الشرطة الجنائية الفيدرالية لشبكة "آ ار دي" الإعلامية العامة إن المجموعة "تتكون من مزيج خطير من الأشخاص الذين يتبنون معتقدات غير عقلانية، بعضهم لديه الكثير من المال، والبعض الآخر يمتلك أسلحة ولديهم خطة أرادوا تنفيذها... وهذا هو سبب الخطورة ولذلك تدخلنا". من جهته، قال الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير إنه "قلق للغاية" بشأن المؤامرة واعتبر أن الموضوع وصل إلى "مستوى جديد".
وقد شارك في العمليات التي نُفذت في ساعة مبكرة صباح الأربعاء أكثر من ثلاثة آلاف عنصر بينهم وحدات النخبة لمكافحة الإرهاب، قاموا خلالها بتفتيش أكثر من 130 عقاراً، قالت بشأنها وسائل إعلام ألمانية إنها واحدة من أكبر عمليات الشرطة التي شهدتها البلاد.
ولا زالت الكثير من القضايا طي البحث والكتمان إذ تتعلق هذه القضية بالأمن القومي وتتجاوز آثارها حدود ألمانيا فلا زال الحديث حول بعض النقاط سابقا لأوانه، ولكن هناك نقاط يمكن إلقاء الضوء عليها:
أولا: أثبتت هذه الحادثة أن الأفكار لا تموت إلا من خلال العملية الفكرية ببيان فسادها وخطئها ولا يكون التغيير من خلال الخوف والاعتقالات كما تفعل الدول حاليا فهذه الأفكار بحاجة إلى معالجة وصراع فكريين ويتطلب أيضا وجود فكرة بديلة صحيحة يُراد إيجادها عند الآخرين خاصة وأن هذه الأفكار هي متجذرة في عقلية الألمان وتفوّق العنصر الآري والنظرة النازية التي سببت الحروب العالمية وتحمل نظرة إكبار في عقلية هؤلاء لذا كان تغيير سلوك الإنسان متعلقاً بتغيير مفاهيمه وأفكاره وإيجاد مفاهيم أخرى بديلة له. ورد في كتاب نظام الإسلام (والطريقُ الوحيدُ لتغييِر المفاهيمِ هُوَ إيجادُ الفكرِ عَنِ الحياةِ الدنيا حتَّى تُوجَدَ بواسطتِهِ المفاهيمُ الصحيحةُ عَنْهَا. والفكرُ عَنِ الحياةِ الدنيا لا يتركَّزُ تَرَكُّزاً مُنْتِجاً إِلاّ بعدَ أَنْ يُوجَدَ الفكرُ عَنِ الكونِ والإنسانِ والحياةِ، وعمَّا قبلَ الحياةِ الدنيا وعمَّا بعدَها، وعَنْ عَلاقتِها بما قبلَهَا وما بعدَهَا، وذَلِكَ بإِعطاءِ الفكرةِ الكُلِّيَةِ عمَّا وراءَ هذَا الكونِ والإنسانِ والحياةِ. لأنَّها القاعدةُ الفكريةُ التي تُبْنَى عليْهَا جَميعُ الأفكارِ عَنِ الحياةِ. وإِعطاءُ الفكرةِ الكليةِ عَنْ هذِهِ الأَشْيَاءِ هُوَ حَلُّ العُقْدَةِ الكُبْرى عِندَ الإنسانِ. ومتى حُلَّتْ هذه العقدةُ حُلَّت باقِي العُقَدِ، لأنها جزئيةٌ بالنِسْبَةِ لَهَا، أَوْ فُروعٌ عَنْها. لَكِنَّ هذا الحلَّ لا يُوصِلُ إِلى النَّهضةِ الصحيحةِ إلا إذا كانَ حلاً صحيحاً يوافِقُ فِطْرَةَ الإنسانِ، ويُقْنِعُ العقلَ، فَيَمْلأُ القَلبَ طُمَأْنِينَةً.)
ثانيا: ما حدث في ألمانيا أمر خطير جدا لأن هذه الأفكار مفاهيم أعماق تثور وتطفو إلى السطح بشكل كبير إذا أثيرت من خلال الأحداث أو إثارتها مع الناس بالحديث، فالقضية ليست في كم عدد أفراد هذه المنظمات وإنما القضية هي وجود هذه الأفكار في حاضنة مجتمعية قابلة لها، بل بنمو اليمين المتطرف في كل أوروبا، فالحاضنة ليست داخل ألمانيا بل داخل أوروبا قاطبة صاحبة فكرة الدولة القومية، ومن تربتها نشأت تلك الأفكار المنحطة والروابط الفاسدة، فكيف إذا كانت هذه الأفكار لم تعالج فكريا ولها عمق تاريخي في وجدان بعض الشعوب ولها من يثيرها بشكل واضح وكبير فضلا عن الأحداث السياسية وتداعياتها على أوروبا والعالم كله، فأحداث روسيا وحرب أوكرانيا زادت من أثرها على تنامي اليمين المتطرف، وأحداث ضعف كيان الدول الأوروبية وانكشاف عورتها وضعفها والوضع الاقتصادي المتردي ونسب البطالة والوضع المعيشي الصعب والخطير وكلفة المعيشة، كلها جعلت من هذه الأفكار لها أذن في الشعوب الأوروبية.
والأمر الأخطر من هذا كله هو انعدام السياسيين والمفكرين وانعدام وجود فكرة مبدئية إنسانية جامعة بل الأفكار القومية ذات الصراع المرير والحروب والطائفية العرقية، وتاريخ أوروبا شاهد على كل هذا؛ فأوروبا هي والعالم كله لا تملك فكرة مبدئية صحيحة تستطيع أن تجتث الأفكار القومية والعرقية والأنانية وتعظيم الذات لشعب دون شعب ونظرة الفوقية اللهم إلا الإسلام المبدأ الرباني الصحيح الذي آخى بين بلال الحبشي وصهيب الرومي وحمزة العربي وسلمان الفارسي، لذا كانت معضلة أوروبا ومنها ألمانيا خطيرة وكبيرة وإن استطاعت ألمانيا بالاعتقالات والخوف تخفيف حدة الآثار لكن المستقبل القريب لا يبشر لها بخير طالما أن هذه الأفكار متجذرة في قلوب الألمان وطالما الوضع السياسي القاسي واضطرار ألمانيا لمحاولة وقف الرعب الروسي متناغمة مع أهداف أمريكا لكبح جماح روسيا لا بد لليمين من استحضار التاريخ القريب ولا بد من إثارة القوميات والنعرات والتي أثيرت فعلا وخرجت من جحورها، وما تنتظره ألمانيا وأوروبا من مستقبل غامض ومخيف لا قدرة لهم على آثاره لذا كانت هذه الأحداث لا تقرأ بمعزل عن محيطها وتاريخها وأثرها وتأثرها بما يثيرها وهي كثيرة.
والخلاصة، إن البشرية لن تنعم بالأمان والسلام إلا من خلال مبدأ إنساني صحيح رباني المصدر ليخرج البشر من ذواتهم إلى عدالة السماء، وهذا لن يكون إلا بالإسلام ممثلا بدولته دولة الخلافة الراشدة.