قواعد عامة في فهم النص السياسي وتحليله كتبه جريدة الراية (حزب التحرير) الأربعاء, 27 أيلول/سبتمبر 2017
يبتنى التحليل السياسي على قواعد عامة، لا ينبغي تجاهلها بحال، وتجري في قراءة النص قراءة صحيحة، عملية التفكير التي تجري عند قراءة أي نص فقهي أو فكري، بمعنى أنه تجري فيه عملية تفكير مكتملة الأركان، فكما أن الفقيه مثلا يحتاج إلى النظر في الواقع، فكذلك السياسي، وكما أن الفقيه لا يستطيع إصدار الحكم بغير المعلومات السابقة، فكذلك السياسي، لا بد له من معلومات سابقة تكون ركائز، حتى لا يضل في فهمه وتحليله، ولا ندعي هنا بأننا نجمع هذه القواعد والأسس على سبيل الحصر والقصر، لكننا نذكر بعضها عن طريق الاستقراء والمتابعة...
القاعدة الأولى: إن الدول الكبرى في حالة صراع دائمية، تحكمها مصالحها، وهي وإن بدا عليها بعض التوافق فإنما يكون ذلك لأمر طارئ وحاجة عرضية، فإذا قضيت الحاجة عاد الأمر سيرته الأولى، من الصراع والتنازع.
فمصالح أمريكا هي غير مصالح بريطانيا ومصالح فرنسا غير روسيا وهكذا... ولا أدل على ذلك مثلا مما حصل بين الدول الكبرى في الحربين العالميتين الأولى والثانية، يوم اجتمعت الدول الكبرى على ألمانيا في الحرب الأولى لمنعها من السيطرة على نفط الشرق الأوسط، واجتمعت في الحرب الثانية، لتمنع ألمانيا من الإخلال بميزان القوى في أوروبا، فكان ما كان من قتل ما يزيد على خمسين مليونا من البشر، واستخدام الأسلحة الذرية...
والسياسي لا يغتر بالتصريحات التي يكون الكثير منها للاستهلاك المحلي ليس غير، وليست هي السياسة الخارجية للدولة، فمثلا روسيا تظهر دائما أنها على خلاف مع أمريكا في سوريا، ولكن المدقق يعلم بأن أمريكا هي صاحبة النفوذ في سوريا لعقود طويلة، ولم يكن لها لتسمح لأية دولة، فضلا عن روسيا بأن تتدخل فيها، إلا إذا رأت فيه مصلحة تحققها، ولا أدل على ذلك من أن تدخل روسيا في سوريا لم يأت إلا بعد أن طلبت أمريكا من روسيا التدخل، ولو كانت روسيا كما تدعي، بأن تدخلها أملته المصالح الروسية، لكان منطقيا التدخل من بداية الثورة، فلما هي لم تتدخل إلا بعد أربع سنوات علمنا بأن أسطوانة المصالح الروسية هي كلام استهلاكي محلي لا قيمة له، هذا فضلا عن أن أمريكا لم تكن لتسمح لروسيا وقبلها للاتحاد السوفيتي بالتدخل في مناطق نفوذها، وبالذات بعد الاتفاق الذي وقعته سنة 1963 بين خورشوف وكندي، والذي كان من أهم بنوده القبول بأن يكون الشرق الأوسط كاملا من حصة أمريكا، وليس للاتحاد السوفيتي التدخل، فالشرق الأوسط أقرب إلى أن يكون مصلحة حيوية أمريكية، وذلك لموقعه الاستراتيجي ووجود كيان يهود والنفط... وللعلم فإن الاتحاد السوفيتي ووريثه روسيا، قد بقيت على هذا الاتفاق، وهي تنفذ بنوده ولا زالت مرغمة، أما أمريكا فقد استغلت ضعف الاتحاد السوفيتي ومن بعده روسيا، فنكثت عهدها معها، وقد كان من البنود التي جرى الاتفاق عليها هو جعل أوروبا الشرقية من مناطق النفوذ الروسي، إلا أننا نجد بأن أمريكا لا تنفك عن التدخل ومحاولة استمالة دول أوروبا الشرقية، وقد أفقدت أمريكا روسيا كل دول أوروبا الشرقية وهي بلغاريا ورومانيا وبولندا والمجر، ولم تبق لروسيا السيادة إلا على كازاخستان، ولا أدل على ذلك من زرع أوروبا الشرقية بمنظومة الصواريخ المضادة للصواريخ، حتى أوصلتها إلى رومانيا وبولندا، وبالرغم من أن روسيا لا تنفك عن الجعجعة بأنها ستتخذ الإجراءات اللازمة لحماية مناطق نفوذها، إلا أنها لم تتخذ أيا من الإجراءات العملية لمنع أمريكا من الاقتراب من مناطق نفوذها، بالرغم من أن التصريحات التي صدرت من موسكو بالتوعد والرد على أمريكا باختلاف ألفاظها، تصلح لتكون ملحمة سياسية على غرار ملحمة هوميروس الشعرية.
وجماع هذه القاعدة، وحتى لا أطيل، بأن روسيا ما يكون لها أن تتدخل في منطقة نفوذ أمريكية إلا إذا سمحت لها أمريكا بذلك، وهذا ما حصل في سوريا وهي واسطة العقد بالنسبة لأمريكا في الشرق الأوسط، فإن أمريكا قد استدعت روسيا لتقيل بها عثرتها، أما أن يقال بأن المصلحة الروسية اقتضت منها التدخل في سوريا، فإن هذا الكلام ليس من السياسة في شيء وليس من التحليل السياسي المرتكز على قواعد، وإنما هو رأي إخباري ليس أكثر، وهو يخالف قاعدة بل قواعد أصيلة في السياسة.
القاعدة الثانية: الدول الاستعمارية لم تخرج من مناطق نفوذها واستعمارها، إلا وقد وضعت جيوشا من النواطير والمطايا بحيث يكونون وكلاء عن الاستعمار في تحقيق مصالحه والإبقاء على نفوذه، فهم اسماً حكام وفي الحقيقة هم مطايا ليس لهم من الأمر شيء غير رعاية مصالح الدولة المستعمرة... والعميل يبقى على عمالته وليس بوسعه الانعتاق من العبودية والرق لأن أمره ليس بيده، وإذا بدا له الانفكاك من العبودية أو تحويل عمالته، كما فعل رياض الصلح فسرعان ما يجري التخلص منه بقتل أو انقلاب لتعود الدولة سيرتها الأولى من العمالة والتبعية والوصاية الدائمة.
القاعدة الثالثة: الدول العميلة تبقى عميلة على قاعدة استصحاب الأصل.
فدولة مثل مصر انتزعتها أمريكا من بريطانيا بعد الانقلاب الذي قاده من يتسمون بالضباط الأحرار مطلع خمسينات القرن الفائت، وللعلم فإن اتصالات أمريكا وتنسيقها مع الضباط الأحرار وعلى رأسهم عبد الناصر ومحمد نجيب والشافعي والسادات قبل الانقلاب، لم يعد خافيا، وقد تسربت وثائق بذلك ومعلومات استخباراتية ذكر جزءا منها جلال أمين العالم تحت عنوان (ثورة الضباط الأحرار جاءت على قطار أمريكي)، وتحدث هيكل من خلال قناة الجزيرة، عن تنسيق بين الضباط الأحرار وأمريكا، وقد كتب محمد جلال كشك كتابا أسماه (ثورة يوليو الأمريكية) ضمنه كلاما لهيكل واعتمد فيه على كتاب لعبة الأمم، ومن اسم الكتاب يظهر ما يريد منه صاحبه، وبالتالي فإن بقاء النظام في مصر تحت الرعاية الأمريكية ثابت، وهو من قبيل المحكم في السياسة، وقد استفاضت أخبار عمالة عبد الناصر لأمريكا، ولذلك فالسياسي المتابع يجب عليه إذا أراد إصابة التحليل السياسي، أن يضع هذا الثابت نصب عينيه وليس له تجاوزه بحال، فمصر لم تخرج من قبضة أمريكا منذ انتزاعها من بريطانيا وحتى كتابة هذه السطور، ولذلك فإن ادعاء خروجها يحتاج إلى دليل، وليس هناك ثمة دليل ولا حتى أمارة، وحتى في السنة التي حكم فيها مرسي ووصل الإخوان إلى الحكم، فإن الأمر لا يعدو كون أمريكا سمحت لهم بالوصول للحكم، ولكن لما بدا لأمريكا، ولاعتبارات كثيرة بأن مرسي والإخوان لن يستطيعوا المحافظة على مصالحها بالكامل عادت وطلبت من المؤسسة العسكرية الإمساك بالحكم، وإنهاء حكم مرسي وجماعته.
والمثال الثاني إيران الخميني، فإن أمريكا كانت على تنسيق كامل مع الخميني لإحداث انقلاب في إيران منذ زمن كيندي وحتى كارتر، وقد كشفت وثائق CIA عن الاتصالات التي جرت لإحداث الانقلاب وضمان المصالح الأمريكية، ومن شاء فليراجع الوثائق التي جرى كشفها، ومنذ نجاح الثورة المزعومة في إيران الخميني، وإيران تدور في فلك أمريكا وهي أقرب إلى العمالة، ومن أراد إثبات العكس فهو المطالب بالدليل.
القاعدة الرابعة: قد تقوم الدولة الأولى في العالم بسلسلة من الأعمال لخداع الرأي العام، فيقوم ممتهنو السياسة تبعا لذلك التضليل، بالخروج بنتائج بنيت على قواعد خاطئة.
فمثلا ضغطت أمريكا على باكستان زمن عميلها مشرف ليقدم التنازلات للهند في قضية كشمير، فظن بعض السياسيين، وقد كان حزب المؤتمر ذو التوجه الإنجليزي في سدة الحكم في الهند، ظنوا أن أمريكا استمالت حزب المؤتمر ربيب الإنجليز، وتخلت عن عميلها مشرف، مع أن أمريكا غاية ما كانت تريده هو الاستقرار في شبه القارة الهندية وإحداث الموازنة فيها، لتتصدى الهند للصين القوة المتعاظمة اقتصاديا وديموغرافيا بل وحتى عسكريا، ولا يتأتى للهند بأن تتصدى للصين إلا إذا كانت قوية وحدودها هادئة، وهذا ما يفسر سكوت أمريكا ورضاها عن حيازة كل من باكستان والهند للسلاح النووي، فالأمر كله وغايته الضغط على الصين ولا غير...
ومثال آخر من أمثلة التضليل، فإنه في الوقت الذي كانت فيه أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية تقف موقف عداء ظاهر ضد الاتحاد السوفيتي، كانت في الوقت ذاته تدعم الحزب الشيوعي الصيني ليصل إلى الحكم، حتى إن الرئيس الصيني آنذاك كان يتهم أمريكا بالغباء والجهل السياسي، لغرابة تصرفها في دعمها الحزب الشيوعي، ولكنه تبين بعد وصول الشيوعيين للحكم، بأن أمريكا تريد صيناً شيوعية قوية تقف ضد الاتحاد السوفيتي.
فالتحليل السياسي صنعة كباقي الصنائع، لا ينبغي أن يفارق أهلها الثوابت والقواعد، ولا بد من إدراك أن السياسة في تغير دائم والأحداث السياسة ليست على حال واحدة، وإنما قد تجري متغيراتها على الأرض في كل يوم بل في كل ساعة، ولا تدوم على حال واحدة، ولذلك فلا عجب بأن التفكير السياسي أعلى أنواع التفكير على الإطلاق، فهو مع تغيره يتطلب اليقظة الدائمة، والذهن المتقد، وهو لا يطلب لذاته وإنما هو من علوم الآلة، الذي يطلب لغيره لأن رعاية شئون الأمة ومعرفة ما يحاك ضدها من مؤامرات، هو من إحسان الرعاية وتمام تنفيذها، فالسياسي هو من جعل همه رعاية الناس بفكرته وليس من يمتهن الصحافة.
بقلم: خالد الأشقر (أبو المعتز)