لا أتصور أن هناك إنساناً يرى الاستعمار يدوس أعناقنا في كل مكان ، ثم يمجّد هذا الاستعمار !
إن الاستعمار لا يغلبنا بالنار ، بل بقابليتنا للاستعمار .
يغلبنا بأولئك الذين استُعمرت أرواحهم ، وبتلك الأقلام التي تُغمس في مداد الذل والهوان النفسي والفكري، لتكتب عن أمجاد الغرب !
إن أخطر ما يهدد حصوننا هم أُجراء الثقافة الغربية ، وفسائل مختبراتها التي لا تثمر إلا الفكر اللقيط .
في نقاش مع أحدهم، حول فكرة التّسامح عند الغرب،
بين النظرية والممارسة.. بيّنتُ له بالحُجج التالية ما يلي :
إنّ العوامل التي أفرزت عدم إيمان الغرب بفكرة التسامح التي نظّر لها، وعدم قناعته التّامة بأسسها وعدم اعتباره للقيمة المبتغاة من تحقيقها، فهي التالية:
1 . عدم تصديق الفكرة
إذ أنّ الفكرة لا تؤثر في السلوك إلا إذا صدقها الإنسان واقتنع بها. والحقيقة، أنّ فكرة التسامح، وعلى وجه الخصوص التسامح مع المسلمين، لم تتحول إلى قناعة عند أغلب الغربيين، وذلك لأمور كثيرة نذكر منها ما يلي:
أ . مفاهيم الأعماق
هناك جملة من المفاهيم لدى الإنسان مغروسة في أعماقه، موجهة لميوله ومؤثرة في سلوكه تظهر من حين إلى آخر في مواقف معينة عبر أقوال وأفعال. هذه المفاهيم هي التي يطلق عليها مفاهيم الأعماق.
والذي يجري في داخل الإنسان، هو أنّ الفكر الذي ينظّر له ويريد أن يطبّقه ويمارسه قد يصطدم بمفهوم من مفاهيم أعماقه يناقضه ويدفعه، فيصعب في هذه الحالة تصديقه أو الإقتناع به.
فلو رجعنا لتصريحات السّاسة والإعلاميين وغيرهم من الغربيين لوجدنا أن مفاهيم الأعماق تجاه المسلمين سلبية. مثال ذلك، مناداة بوش الصغير بعد أحداث سبتمبر 2001م بـ"حرب صليبية"، اعتبرت زلة لسان منه تراجع عنها.
ومثال ذلك أيضا، قول برلسكوني بأفضلية الحضارة الغربية الذي اعتبر زلة لسان وتراجع عنه. والأمثلة على هذا كثيرة لا ينكرها نزيه.
والحاصل، فإنّ مفاهيم الأعماق لدى الغرب عن الإسلام والمسلمين أقوى من أن تزيلها نظرية التسامح، وأعمق من أن تمحوها فكرة احترام الآخر وقبوله، لأنها فكرة متجذرة في النفوس والعقول منذ مئات السنين.
والنتيجة بتعبير الدكتور مراد هوفمان هي:
"إن الغرب يتسامح مع كل المعتقدات والملل حتى مع عبدة الشيطان، ولكنه لا يُظهر أي تسامح مع المسلمين، فكل شيء مسموح به إلا أن تكون مسلماً!"[1]
ومما تجب الإشارة إليه، أننا نقول إن مفاهيم الأعماق السلبية عن الإسلام موجودة منذ مئات السنين ولا نقول بعد 11/9/2001م لأنّ الحقيقة هي أنّ أحداث سبتمبر، وما تبعها من تغيّرات عظمى في السياسة العالمية والمحلية #أظهرت مفاهيم الأعماق #ولم_توجدها. وخير شاهد على ما نقول النقول التالية لبعض الغربيين:
يقول المستشرق الشهير غوستاف لوبون: "تراكمت أوهامنا الموروثة ضد الإسلام بتعاقب القرون، وصارت جزءاً من مزاجنا، وأضحت طبيعة متأصلة فينا تأصُّلَ حقدِ اليهود على النصارى الخفيّ أحياناً والعميق دائماً."[2]
ويؤكّد ليوبولد فايس هذا بقوله : "إن روح الحروب الصليبية ما تزال تتسكع فوق أوربا ، ولا تزال تقف من العالم الإسلامي موقفاً يحمل آثاراً واضحة لذلك الشبح المستميت في القتال."[3]
ويقول المستشرق فان كونجزفالد: "من أراد في الغرب الدخول في نقاش حول الإسلام، فإنه سيواجه عقدة مستمرّة من المفاهيم التي قد سبق وتشكّلت في أغلبها منذ الأجيال السابقة."[4]
ويقول الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية نيكسون: "يميل كثير من الأمريكيين إلى تصور المسلمين على أنهم نمط واحد من الناس غير المتمدنين، غير النظيفين، المتوحشين وغير العقلانيين، وعلى الغالب لا يلفت انتباهنا فيهم سوى أن بعض زعمائهم لهم الحظ السعيد في أنهم يحكمون أقاليم تحتوي في باطن أرضها على ثلثي الاحتياطات المؤكدة من النفط في العالم. ليس هنالك من شعب، حتى ولا الصين الشعبية، له صورة سلبية في ضمير الأمريكيين بالقدر الذي للعالم الإسلامي."[5]
وتقول كارين آرمسترونغ (Armstrong)في كتابها (محمد: سيرة نبي):
"لدينا في الغرب تاريخ طويل من الحقد والعداء تجاه الإسلام، ولكن هذه الكراهية ما زالت تزدهر وتكبر على جانبي المحيط الأطلسي، ولا شيء يمنع الناس من مهاجمة هذا الدين حتى وإن كانوا لا يعلمون عنه شيئا."[6]
ويقول الصحفي آلان روسكيو RUSCIO:
" من أين يأتي هذا الحقد المتأصل الذي يكنه جزء لا يستهان به من الفرنسيين تجاه المغاربة المقيمين في فرنسا؟ أو بشكل عام، تجاه المسلمين؟... قد يفاجأ الجمهور الفرنسي عام 2004م كثيرا إذا اجبنا بأن العنصرية المضادة للعرب تعود إلى القرون الوسطى، إلى بداية الغزو المضادReconquista إلى الحملات الصليبية أو ربما الى ما قبل هذا التاريخ.أليس من اللافت أن تكون بعض العناصر المكونة لثقافة الفرنسيين التاريخية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالمجابهات مع العالم العربي الإسلامي؟ بالتسلسل الزمني: معركة بواتييه، معركة رونسفو، الحملات الصليبية... "[7]
ب . ضعف التركيز
إنّ الفكرة إذا ما تم تبنيها تتطلب عملا دؤوبا لترسيخها في العقول وتركيزها في النفوس، وذلك عبر جملة من الأعمال كالتثقيف والدراسة والدعوة والدعاية. والملاحظ، أنّ فكرة التسامح التي تبناها الغرب، ونصّ عليها في قوانين عالمية، وأبرزها من خلال مؤسسات دولية متعددة كاليونسكو، لا تحظى بهذا التركيز إلا في بلاد المسلمين.
ففي بلاد المسلمين تجري عملية تغيير المناهج بما يتناسب والذوق الغربي، وتجري عملية مراقبة وسائل الإعلام بما يتفق مع الرؤية الغربية. وأما في بلاد الغرب نفسها، فلا شي من ذلك يحدث، ولا زال الأمر على ما هو عليه. بل إن التركيز الفكري لا يجري على فكرة التسامح، ولا يتفق مع معانيها ومدلولاتها المقررة. وخير شاهد على هذا ما نشرته مؤخرا الصحف الدنماركية والنرويجية من صور مشوّهة للنبي صلى الله عليه وسلم.
فالحقيقة الماثلة للعيان، هي أن وسائل الإعلام الغربية، المقروءة منها والمرئية والمسموعة، تركز فكرة سلبية عن الإسلام والمسلمين. فكم هي المقالات، والكتب، والبرامج التلفزيونية والأفلام التي تبرز الإسلام كدين عدواني، والمسلم كإرهابي، والمسلمة كمقهورة متخلفة. ويعترف عالم الاجتماع الأمريكي نيكولاس هوفمان بهذا فيقول: "لا توجد ديانة أو قومية أو ثقافة كثقافة العرب والمسلمين تتعرض في الولايات المتحدة لمثل هذا التشويه الفظيع".[8] وتقول آرمسترونغ: "إن الإعلام الغربي يثير انطباعات بأن التشدد والتزمت الديني الذي يتسم بالعنف ويسمى (التعصب) هو ظاهرة إسلامية بحتة".[9]
إن هذه الأعمال المصطنعة والمقصودة لا يمكن أن تركز فكرة التسامح في عقل الإنسان الغربي ونفسه، بل هي على النقيض من ذلك تشحن انفعالاته السلبية، وتعمّق مفاهيمه الموروثة عن الإسلام والمسلمين. إنها لا تصور الآخر إلا بسلبية، وتجعل منه الجحيم. لذا، فمن المستحيل أن يتحول التسامح إلى قيمة حقيقية عند الغرب إلا إذا سعى بجدية لتركيزها، واتخذ الإجراءات اللازمة لحصولها.
2 . عدم الانسجام بين النظرية والأيديولوجية
بما أنّ القواعد الفكرية والمقاييس الكلية المرتبطة بالأيديولوجية التي يعتنقها الإنسان هي الموجهة لسلوك هذا الإنسان ومعاملاته وعلاقاته مع غيره، فإنّه لا بدّ للفكرة الفرعية المراد العمل بها، وتطبيقها، الانسجام مع تلك القواعد والمقاييس، والتناسق معها. فإذا كانت الفكرة المنظر لها من غير جنس الأيديولوجية المعتنقة، أو القواعد العامة والمقاييس الكلية المتخذة، كان فشلها حتميا.
والتسامح كنظرية تحمل في طياتها مدلولات أخلاقية وإنسانية أبعد ما تكون عن المصلحة والمنفعة، لا يمكن تطبيقها تطبيقا كاملا مثاليا عند الغرب لعدم تجانسها مع قاعدة أساسية في الفكر الغربي هي النفعية. ذلك، أن التسامح في واقعه يفيد بقاء الآخر على ما هو عليه، ويفيد حقّ الآخر في تحديد عقيدته، ونظامه، وثقافته، وحضارته ودولته أو بتعبير إعلان مبادىء التسامح الذي قرره اليونسكو يفيد "احترام وتقدير وقبول التنوع الثري لثقافات عالمنا، ومختلف أنماطنا التعبيرية، وطرق تحقيق كينونتنا الإنسانية". فإذا ما ترك الأمر للمسلمين اختاروا الإسلام كمبدأ، وحكم ونظام، وهو ما يتعارض –كما يرى الغرب- مع المصالح الغربية المتمركزة في العالم الإسلامي.
لقد كان من الصعب على الغرب أن يوفق بين نظرية التسامح وعقيدة الأمن القومي عند الأمريكان Doctrine of American National Securityالتي ترى في وجود النفط بالعالم الإسلامي "غلطة الرب"، أو أن يوفق بين نظرية التسامح الأخلاقية وأس السياسة عنده المتمثّل في الميكيافلية التي تقضي "بإيثار الغشّ والخداع والمراوغة والتسويف وسوء النية والدهاء والأنانية في تحقيق الأهداف المنشودة، دون إقامة أي اعتبار لنداء الضمير أو مبادىء الدين والأخلاق، على أساس أنّ الغاية تبرّر الوسيلة"[10].
لذلك، كان على الغرب أن يرجح بين نظرية التسامح والمصلحة، فاختار المصلحة واحتل أفغانستان والعراق، ودعم الكيان الصهيوني والدكتاتوريات في العالم الإسلامي.
وأما نظرية التسامح فلم يلغها أو يبطل الدعوة إليها إنما استعملها وفق مقياسه النفعي كقناع وشعار زائف يستر حقيقة أهدافه الاستعمارية، ويخفي أطماعه الرأسمالية. فهي كإنجيل الرجل الأبيض الذي قال فيه سيمونز:" "جاء الرجل الأبيض إلى إفريقيا وبيده الإنجيل … ولكن بعد أن مرت عقود قليلة أصبحت الأرض للرجل الأبيض، وأصبح الإنجيل بيد الزنجي!".
إنّ الحضارة الغربية في واقعها حضارة مادية، فقد قامت على تصور للحياة بأنها منفعة، وأنّ "المصلحة وحدها هي الحافز للسلوك الإنساني"، لذلك فإنها لا تقيم لغير المنفعة وزنا، ولا تعترف إلاّ بها، وتجعلها هي الأساس. وأما القيم الروحية والأخلاقية فهي ثانوية وليست أساسية.
يقول كولن ولسون :
"أَنظر إلى حضارتنا نظري إلى شيء رخيص تافه، باعتبار أنهاتُمثل انحطاط جميع المقاييس العقلية."[11]
و يقول المؤرخ أرنولد توينبي:
"إن الحضارة الغربية مصابة بالخواء الروحي الذي يُحوّلالإنسان إلى قزم مشوّه يفتقد عناصر الوجود الإنساني، فيعيش الحد الأدنى من حياته، وهو حد وجوده المادي فحسب، والذي يُحول المجتمع إلى قطيع يركض بلا هدف، ويُحول حياته إلى جحيم مشوب بالقلق والحيرة والتمزق النفسي".[12]
ويقول الكاتب الإنجليزي جود Joad:
"...إن الحضارة الحديثة ليس فيها توازن بين القوة والأخلاق،فالأخلاق متأخرة جداً عن العلم فقد منحتنا العلوم الطبيعية قوة هائلة ولكننا نستخدمها بعقل الأطفال والوحوش.. وإن سمّ الانحطاط هو خطأ الإنسان في فهم حقيقة كانته في الكون، وفي إنكاره عالم القيم، الذي يشمل قيم الخير والحق والجمال".[13]
ويقول مايكل هارنجتون :
"هل هناك في مجتمعنا التكنولوجي ميثاق أخلاقي ينقذنا من عبقريتنا ؟".[14]
وتقول ألكسيس كارليل: "في المدينة العصرية قلما نشاهد أفراداً يتبعون مَثلاً أخلاقياً، مع أن جمال الأخلاق يفوق العلم والفن من حيث أنه أساس الحضارة … كما أن هذه المدنية هبطت بمستوى ذكاء الشعب، بدليل وجود هذا العدد الكبير من المجانين بيننا".[15]
ويقول البروفسور دون فان إيتن أستاذ التاريخ بجامعة كاليفورنيا:
"لا شك في أنّ عقيدتنا الرأسمالية بلا خلق ولا دين، هكذا هي منذ أن ولدت حتى يومنا هذا."[16]
ويقول لي آتووتر Atwaterوهو أحد الرموز البارزة في إدارة الرئيس ريغان في عدد فبراير 1991م من مجلة Life:
"...لقد ساعدني مرضي على أن أدرك أن ما كان مفقودا في المجتمع كان مفقودا في داخلي أنا أيضا: قليل من الحب والمودة وقليل من الأخوة...لا أعلم من سيقودنا في عقد التسعينيات، ولكن ينبغي عليه أن يتحدث صراحة عن هذا الخواء الروحي في قلب المجتمع الأميركي، إنه ورم خبيث ينتشر في أرواحنا".[17]
ويقول الصحفي الأمريكي المشهور غونتر Jhon Guntherفي كتابه (داخل أوروبا) :
"إن الإنجليز إنما يعبدون بنك إنجلترا ستة أيام في الأسبوع ويتوجهون في اليوم السابع إلى الكنيسة." [18]
إنّ هذه النظرة المادية هي التي أشقت الإنسان بوصفه الفردي والجمعي، وهي التي أفرزت أزمة الإنسان التي عبر عنها ثلة من مفكري الغرب بعبارات مختلفة كقول إميل بريهية Brehierفي كتابه (اتجاهات الفلسفة المعاصرة):
"...إن المعرفة المادية انتهت إلى حضارة صناعية موغلة في المادية استأصلت إنسانية الإنسان وأفقدته ذاته وحولته إلى شيء وآلة"[19].
إنّ الأيديولوجية الغربية القائمة على النفعية، لا ترى في الأخلاق واجبا يلتزم به، بل مصلحة. وهو ما عبّر عنه فولتير بقوله:
" ... لا بدّ للبلد ليكون صالحا أن يكون له دين. أريد من زوجتي وخياطي ومحاميي أن يؤمنوا بالله وبذلك يقل غشّهم وسرقاتهم لي. وإذا كان لا وجود لله يجب علينا أن نخترع إلها..."[20]
ويقول جور سانتيانا: "إنني أصدق المذهب الكاثوليكي ولو أنني أعلم أنه كاذب".[21]
وهي نظرة لا يمكن أن تنتج الإلتزام الضروري بأي فضيلة أو خلق لأنها تربط الخلق نفسه بمقدار ما يحقق من مصلحة.
وعليه، فقد كان من الطبيعي أن تفشل نظرية التسامح في ملامسة عقل الكثير من الغربيين ونفسيتهم، وكان من الطبيعي ألاّ تجد لها مكانة في عمق الغرب حتى تؤثر في نظرته إلى الآخر وتوجه سلوكه نحوه بناء على معانيها ومدلولاتها.
3 . انعدام الحافز على التطبيق:
يسأل المرء نفسه قبل التزامه بعمل من الأعمال عن دواعي هذا الإلتزام، فيقول: لماذا ألتزم بهذا العمل؟
وإذا اعتبرنا أن هذا العمل الذي نريد للإنسان أن يلتزم به هو التسامح، لكان السؤال: لماذا ألتزم بالتسامح؟
والجواب الذي يمكن للإنسان الغربي أن يتلقاه لا يخرج عن اثنين هما؛ الإلتزام بالتسامح واجب أخلاقي، أو الإلتزام بالتسامح قانون يعاقب على الإخلال به.
أما الجواب الأول فلا يعوّل عليه لأن تحقيق القيمة الأخلاقية ثانوية وليست أساسية كما مر معنا.
وأما الجواب الثاني فممكن اعتباره حافزا على الإلتزام، إلا أنه يصطدم بعوائق كثيرة تقلل من نسبة الملتزمين به. ومن هذه العوائق ما يلي:
إنّ تحقق القانون والالتزام به مرتبط بمدى سلطانه على نفوس الناس. وسلطان القانون في واقعه أدبي معنوي متوقف على مدى احترام الإنسان له. فهل من ضمان يضمن احترام الإنسان الغربي لقانون التسامح إذا فقد القانون سلطانه على نفسه؟
إنّ القانون يلتزم به عادة لما تجرّ مخالفته من عقاب. فإذا أمن الإنسان العقاب، ذهبت هيبة القانون من نفسه. وهذا يعني أن الإنسان قد لا يلتزم بالقانون إذا غفل عنه بل إنه قد يُنظر إلى الخارج عن القانون كبطل استطاع بذكائه خداعه. وفي غالب الحالات يتعاطف معه الناس لهذه العبقرية في خداع القانون. ولا أدل على ذلك من أفلام هوليود التي تحطم الأرقام القياسية في الربح إذا ما أبرزت شخصية لص ظريف سرق بنكا ونجا.
إنّ القانون يلتزم به بغضّ النظر عن القناعة بنصه أو عدمها. لذلك فإن تقنين التسامح لا يفيد البتة القناعة به. وإذا لم تتم القناعة بنظرية التسامح كان القانون في حدّ ذاته حاجزا بين الباطن والظاهر. فظاهر الإنسان رحمة خشية عقوبة القانون، وباطنه نقمة.
إنّ الإنسان الغربي في حقيقته بين اثنين؛ ملحد ومؤمن. فالملحد لا يعنيه مخالفة القانون الدنيوي إذا أمن عدم العقاب؛ لأنه لا يؤمن بعقاب أخروي. وأما المؤمن فلا تمثّل مخالفة القانون الدنيوي عقبة كبيرة له في الظفر بنعيم الجنة الأخروي؛ لأن جلسة اعتراف "Confession "، تمحو ذنوبه وإن عظمت. علاوة على ذلك فإن الدين منفصل عن الحياة مما يجعل أمر تسيير السلوك غير مرتبط به حتى عند المؤمن نفسه.
وعليه، فإن الحافز الوحيد الممكن تصوّره كعامل مؤثر في الإلتزام بالتسامح، ألا وهو القانون، يصطدم بعوائق كثيرة تقلل من نسبة الإلتزام به وتزيد من نسبة عدم الإلتزام به.
ومما تجب الإشارة إليه ضمن هذا السياق لمزيد بيان انعدام أثر القانون في ضبط السلوك، فساد الفلسفة التي قام عليها القانون الغربي نفسه.
فمفهوم القانون "هو مجموعة القواعد العامة الجبرية التي تصدر عن إرادة الدولة وتنظم سلوك الأشخاص الخاضعين لهذه الدولة"[22]
وبناء على هذا المفهوم فإنّ القانون "من أهم وسائل الضبط الاجتماعي بل هو الوسيلة الأساسية التي يعتمد عليها المجتمع المنظّم في ضبط سلوك أفراده"[23].
مما يعني أن القانون عند الغرب هو الأساس في تنفيذ النظام. ولمّا كان القانون أساس تنفيذ النظام قائما على معنى الإجبار والقسر والإلزام بالقوة الذي يعني العقوبة التي توقعها الدولة على مخالفه، فإنّ المشرّع الغربي لم يعتبر الإلتزام بالنظام إلا بالقوة. فهو في نظره غير تلقائي، ولا ينبع من إيمان أو من أي دافع معنوي أو روحي أو أخلاقي، وذلك لأنّ القانون نشأ بموجب فكرة تنازل الفرد عن جزء من حريته، مما يعني وجود الصراع بين الفرد والقانون نفسه. وهذا في حدّ ذاته يعد كافيا للتدليل على عدم وجود ضمانة لتطبيق التسامح حتى وإن قنن، لأن التسامح في واقعه قبل أن يكون مادة قانونية ملزمة فهو موقف فكري وقابلية نفسية لقبول الغير لا يتحققا إلاّ بالقناعة.
4 . خلفية فكرة التسامح
بنيت نظرية التسامح على أسس فكرية وفلسفية معينة. فقد نظر إليها "كاستراتيجية محققة للوفاق والانسجام بين حرية كلّ الأفراد في مسائل العقائد، والقيم وطرق العيش وبين حرية الآخر، وكأداة تقلّل من إكراه الدولة. وإذا أخذ بعين الاعتبار أن أهداف الليبرالية الأساسية هي حماية الحرية الشخصية ودعمها، وتقييد إكراه الدولة المبرر، فإنّ التسامح معتبر كعنصر أساسي في المشروع الليبرالي"[24].
ويرى المؤرخ البروفيسور برنارد لويس:
" أن فكر التسامح قد ولد في النصرانية على أثر الحروب الدينية في أوروبا والتي راح ضحيتها آلاف النصارى نتيجة الصراع الدموي بين الكاثوليك والبروتستانت، فالتسامح وهو الذي يعني فصل الدين عن أعمال الدولة، وباختصار هو العلمانية التي وُجِدت لحلّ مشكلة النصرانية..."[25]
إذا، فالتسامح كفكرة نشأت مع نشأة المشروع الليبرالي في الغرب، وارتبطت ارتباطا وثيقا بتصوراته الوجودية، ومنظمومته الفكرية والقيمية.
وإذا نظرنا إلى دعوة التسامح التي يطلقها الغرب اليوم، ويحثّ العالم بأجمعه على الإلتزام بها، نرى بوضوح أنه يربط بين التسامح ومنظومته الفكرية والقيمية. فلا نجده يراعي فرق الخصوصية الثقافية والحضارية الذي أكده "إعلان المبادىء حول التسامح" بقوله: "احترام وتقدير وقبول التنوع الثري لثقافات عالمنا..." وقوله: " إنّ التسامح يعني تحمّل مسؤولية المصادقة على حقوق الإنسان".
ولا نجده يراعي مبدأ النسبية الثقافية الذي يروّج له الغرب في بلادنا بقوله: إن "القيم الموجودة في أية ثقافة يجب أن تفهم وتقيم تبعا للطريقة التي بنظر بها أصحاب هذه الثقافة إلى الأشياء ومن ثم فإن التقاليد إحدى الثقافات لا يمكن الحكم عليها موضوعيا على أنها أعلى من تقاليد ثقافات أخرى."[26]
نعم، لم نجد من الغرب مراعاة لكل هذه النظريات التي نحمل على القول بها، بل وجدناه يبني نظرية التسامح التي أريد إلزام الأمم بها على نظرة ذاتية وخاصة إلى الدين والثقافة والحضارة والقيم والحكم.
ففكرة التسامح إذن هي فكرة يروّج لها الغرب، ويسعى لتقنينها عالميا، كوسيلة من وسائل الترويج لقيمه، وكآداة من أدوات فرض تجربته التاريخية والحضارية والثقافية على العالم بأجمعه. ولا يخفى علينا أن التجربة الغربية الحضارية تقوم على ركائز أساسية هي: إحلال الطبيعي محل الإلهي، والعقل محل الوحي، والإنسان محلّ الله، والقانون الوضعي محل القانون السماوي.
وهكذا نرى الغرب يعتمد فكرة التسامح لضرب الإسلام، والقضاء على أحكامه الربانية. فنراه يعتبر الجهاد، الذي هو حربا بين الجيوش الإسلامية وأعداءها ،إرهابا، وخطرا على العالم، وفكرة مرعبة تبثّ الفزع في نفوس العالمين. ونراه يعتبر تحريم زواج المسلمة من غير المسلم تقييدا لحرية المرأة، وهضما لحقها، وتمييزا عنصريا. ونراه يعتبر اللواط مطلبا من مطالب التسامح، ويعتبر القول بحرمته تقييدا للحرية الشخصية، وتمييزا جنسيا. فلا نراه يوافق أحكام الإسلام في أي أمر بل يتقصد مخالفتها والطعن فيها، وحمل العالم الإسلامي على تركها.
وفي الختام
إنّ الغرب متسامح نظريا، غير متسامح عمليا، وهو واقع لا يمكن نكرانه. ولكن، هل يمكن للغرب أن يكون في يوم من الأيام متسامحا حقّا؟
هل يمكن أن يكون الغرب الذي يحصر الثقافة والتحضر والتمدّن فيه دون سواه أن يكون في يوم من الأيام متسامحا حقا؟
هل يمكن للغرب الذي يطمع في ثروات المسلمين أن يكون في يوم من الأيام متسامحا حقّا؟
والجواب هو، أن العقل الغربي، كان ولا يزال، لا يسمح بعقل غير عقله، ولا بثقافة غير ثقافته، ولا بمنطق غير منطقه.
......................................
[1] الطريق إلى مكة ص 149
[2] عن كتابه "حضارة العرب" ص21
[3] الإسلام على مفترق الطرق ص64
[4] حديث عن الإسلام والعصر الحديث ص9
[5] أمريكا والفرصة التاريخية ص187
[6] نقلا عن إمبراطورية الشر الجديدة لعبد الحي زلوم ص41
[7] في جذور العنصرية، Le Monde Diplomatiqueشباط/فبراير 24م
[8] الإسلام فوبيا، ت. س. إليوت 85
[9] عن إمبراطورية الشر الجديدة لعبد الحي زلوم ص384
[10] معجم الدبلوماسية والشؤون الدولية لسموحي فوق العادة ص249
[11] سقوط الحضارة لكولن ولسون ص5
[12] عن (مقدمات العلوم والمناهج) لأنور الجندي، مجلد4 ص 772
[13] المصدر نفسه مجلد 4 ص77
[14] عن الإسلام كبديل، د. مراد هوفمان ص5
[15] الإنسان ذلك المجهول ص153
[16] عن نذر العولمة لعبد الحي زلوم، ضمن تعليقات على الكتاب.
[17] عن إمبراطورية الشر الجديدة لعبد الحي زلوم ص397
[18] عن ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للندوي ص263
[19] نقلا عن المدخل إلى معاني الفلسفة، د. عرفان عبد الحميد، ص79
[20] نقلا عن قصة الفلسفة لديورانت ص31
[21] نقلا عن العقيدة في القرآن للتونجي ص11
[22] النظرية العامة للقانون، سمير عبد السيد، ص07
[23] علم الاجتماع القانوني: حسن الساعاتي، ص30
[24] Toleration as Recognition, Anna Elisabetta Galeotti, p. 23, Cambridge University Press 22
[25] في ندوة نُظّمت في فندق كونرار تحت رعاية وزارة الخارجية والمجلس الأوروبي وجمعية الخمسماية سنة تحت عنوان (العنصرية واللاسامية). جريدة تركيا الصادرة في منتصف يناير 1995م.
[26] معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية ص352
نقلا عن صفحة الأستاذ سليم مشاط على موقع الفيس بوك
https://www.facebook.com/slim.machat.79/pos...575002936348925