فما العمل إذن لتدفن ساعة «البغدادي» معه ولا يرثها أحدٌ من بعده؟! أعتقد أن هناك طريقتين لفعل ذلك،
الأولى إقناع دول العالم بالكفّ عن وضع الأجندات واستغلال الأحلام،
والثانية إقناع الشباب بأن الخلافة ليست من أصول الدين، ولا من فروعه، بل ليست مسألة دينية أساساً، وإنما نظامٌ للحكم كان مناسباً لزمنه ولا يصلح لعالم اليوم.
إعادة فكرة «الخلافة» إلى وضعها الطبيعي كنظام حكم ظهر في العصور الوسطى ولا يمكن تطبيقها الآن، مسألة غير قابلة للتأجيل، فحلم إحياء هذا الكيان الهلامي لم ينتج لنا آلافاً من «الدواعش» فحسب، بل أنتج لنا «حسن البنا» مؤسّس جماعة «الإخوان»، و«القاضي النبهاني» مؤسّس «حزب التحرير»، و«العثمانيون الجدد» الذين يسعون إلى التمدّد في المناطق التي كانت واقعة تحت احتلال أجدادهم يوماً، وهي تقريباً معظم الدول العربية وأجزاء من العالم القديم. بأحلام الخلافة التي تراود الأشخاص المخابيل يهتزّ استقرار الدول العربية وتزال الحدود فيما بينها بالجرافات وتدمر النقاط الحدودية بالسيارات المفخخة. ومكمن الخطر أن ألاعيب «الخلافة» التي تستغل من بعض الدول تجد لخطاباتها آذاناً مصغية، ولأجنداتها جنوداً، مرحبين لاختراقها ومهلِّلين.
ورغم كل ما فعلته بنا الخلافة منذ أنْ لم يعد لها وجود، فإنها ما تزال ضمن الخطاب الديني، وكل ما في الأمر أنّ الدعوة إلى إحيائها وعودتها تُصاغ عبر التحسّر على ضياعها، ولعن من كان وراء إنهائها، والأسف على التشرذم الذي حلّ بعدها، والدعاء إلى الله لتوحيد الكلمة، علماً بأن التشرذم في هذا السياق يعني الدول الوطنية المتعددة، والوحدة تعني عودة الدولة الإسلامية الكبرى.
لا خلافة بوجود دول وطنية ذات سيادة، ولا وجود لهذه الدول بعودة الخلافة، وبهذا الاعتبار، فالخلافة أكبر تهديد وجودي لأي دولة عربية أو إسلامية.نعلق بهذه المقالات المهمة عن فرضية إقامة الخلافة وعدم إرتباط هذه الفرضية بموت أو حياة إنسان! كما ننقلها لنقول لكاتب المقالة العقيمة أن طريقته المقترحة الأولى والثانية لمنع قيام الخلافة لن تجدي نفعا مع وعد الله وبشرى رسوله عليه الصلاة والسلام.
فرضية إقامة الخليفةوإقامة خليفة فرض على المسلمين كافة في جميع أقطار العالم. والقيام به ـ كالقيام بأي فرض من الفروض التي فرضها الله على المسلمين ـ هو أمر محتم لا تخيير فيه ولا هوادة في شأنه، والتقصير في القيام به معصية من أكبر المعاصي يعذب الله عليها أشد العذاب.
والدليل على وجوب إقامة الخليفة على المسلمين كافة: الكتاب والسنة وإجماع الصحابة.
أما الكتاب، فإن الله تعالى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين المسلمين بما أنزل الله، وكان أمره له بشكل جازم، قال تعالى مخاطباً الرسول عليه السلام
فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق) وقال: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك). وخطاب الرسول خطاب لأمته ما لم يرد دليل يخصصه به، وهنا لم يرد دليل فيكون خطاباً للمسلمين بإقامة الحكم. ولا يعني إقامة الخليفة إلاّ إقامة الحكم والسلطان. على أن الله تعالى فرض على المسلمين طاعة أولي الأمر، أي الحاكم، مما يدل على وجوب وجود ولي الأمر على المسلمين. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) ولا يأمر الله بطاعة من لا وجود له. فدل على أن إيجاد ولي الأمر واجب. فالله تعالى حين أمر بطاعة ولي الأمر فإنّه يكون قد أمر بإيجاده. فإن وجود ولي الأمر يترتب عليه إقامة الحكم الشرعي، وترك إيجاده يترتب عليه تضييع الحكم الشرعي، فيكون إيجاده واجباً لما يترتب على عدم إيجاده من حُرمة، وهي تضييع الحكم الشرعي.
وأما السنّة فقد روى مسلم عن طريق نافع قال: قال لي ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» . فالنبي صلى الله عليه وسلم فرض على كل مسلم أن تكون في عنقه بيعة، ووصف من يموت وليس في عنقه بيعة بأنه مات ميتة جاهلية. والبيعة لا تكون إلا للخليفة ليس غير. وقد أوجب الرسول على كل مسلم أن تكون في عنقه بيعة لخليفة، ولم يوجب أن يبايع كل مسلم الخليفة. فالواجب هو وجود بيعة في عنق كل مسلم، أي وجود خليفة يستحق في عنق كل مسلم بيعة بوجوده. فوجود الخليفة هو الذي يوجد في عنق كل مسلم بيعة سواء بايع بالفعل أم لم يبايع، ولهذا كان الحديث دليلاً على وجوب نصب الخليفة وليس دليلاً على وجوب أن يبايع كل فرد الخليفة. لأن الذي ذمّه الرسول هو خلو عنق المسلم من بيعة حتى يموت، ولم يذم عدم البيعة. وروى مسلم عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الإمام جُنة يُقاتَل من ورائه ويُتّقى به» .
وروى مسلم عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وأنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا: فما تأمرنا ؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم» . وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «من كره من أميره شيئاً فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية» . فهذه الأحاديث فيها إخبار من الرسول بأنه سيلي المسلمين ولاة، وفيها وصف للخليفة بأنه جُنة أي وقاية. فوصف الرسول بأن الإمام جنة هو إخبار عن فوائد وجود الإمام فهو طلب، لأن الإخبار من الله ومن الرسول إن كان يتضمن الذم فهو طلب ترك، أي نهي، وإن كان يتضمن المدح فهو طلب فعل، فإن كان الفعل المطلوب يترتب على فعله إقامة الحكم الشرعي، أو يترتب على تركه تضييعه، كان ذلك الطلب جازماً. وفي هذه الأحاديث أيضاً أن الذين يسوسون المسلمين هم الخلفاء، وهو يعني طلب إقامتهم، وفيها تحريم أن يخرج المسلم من السلطان، وهذا يعني أن إقامة المسلم سلطاناً، أي حكماً له أمر واجب. على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بطاعة الخلفاء، وبقتال من ينازعهم في خلافتهم، وهذا يعني أمراً بإقامة خليفة، والمحافظة على خلافته بقتال كل من ينازعه. فقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر» . فالأمر بطاعة الإمام أمر بإقامته، والأمر بقتال من ينازعه قرينة على الجزم في دوام إيجاده خليفة واحداً.
وأما إجماع الصحابة فإنهم رضوان الله عليهم أجمعوا على لزوم إقامة خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته، وأجمعوا على إقامة خليفة لأبي بكر، ثم لعمر، ثم لعثمان بعد وفاة كل منهم. وقد ظهر تأكيد إجماع الصحابة على إقامة خليفة من تأخيرهم دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب وفاته واشتغالهم بنصب خليفة له، مع أن دفن الميت عقب وفاته فرض، ويحرم على من يجب عليهم الاشتغال في تجهيزه ودفنه الاشتغال في شيء غيره حتى يتم دفنه. والصحابة الذين يجب عليهم الاشتغال في تجهيز الرسول ودفنه اشتغل قسم منهم بنصب الخليفة عن الاشتغال بدفن الرسول، وسكت قسم منهم عن هذا الاشتغال، وشاركوا في تأخير الدفن ليلتين مع قدرتهم على الإنكار، وقدرتهم على الدفن، فكان ذلك إجماعاً على الاشتغال بنصب الخليفة عن دفن الميت، ولا يكون ذلك إلاّ إذا كان نصب الخليفة أوجب من دفن الميت. وأيضاً فإن الصحابة كلهم أجمعوا طوال أيام حياتهم على وجوب نصب الخليفة، ومع اختلافهم على الشخص الذي ينتخب خليفة فإنهم لم يختلفوا مطلقاً على إقامة خليفة، لا عند وفاة رسول الله، ولا عند وفاة أي خليفة من الخلفاء الراشدين، فكان إجماع الصحابة دليلاً صريحاً وقوياً على وجوب نصب الخليفة.
على أن إقامة الدين وتنفيذ أحكام الشرع في جميع شؤون الحياة الدنيا والأخرى فرض على المسلمين بالدليل القطعي الثبوت القطعي الدلالة، ولا يمكن أن يتم ذلك إلاّ بحاكم ذي سلطان. والقاعدة الشرعية (إن ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب) فكان نصب الخليفة فرضاً من هذه الجهة أيضاً.
فهذه الأدلة صريحة بأن إقامة الحكم والسلطان على المسلمين منهم فرض، وصريحة بأن إقامة خليفة يتولى هو الحكم والسلطان فرض على المسلمين وذلك من أجل تنفيذ أحكام الشرع، لا مجرد حكم وسلطان. انظر قوله صلى الله عليه وسلم فيما روى مسلم عن طريق عوف بن مالك «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلّون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم. قيل يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف، فقال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يداً من طاعة» . فهو صريح في الإخبار بالأئمة الأخيار والأئمة الأشرار، وصريح بتحريم منابذتهم بالسيف ما أقاموا الدين، لأن إقامة الصلاة كناية عن إقامة الدين والحكم به. فكون إقامة الخليفة ليقيم أحكام الإسلام، ويحمل دعوته فرضاً على المسلمين أمر لا شبهة في ثبوته في نصوص الشرع الصحيحة، فوق كونه فرضاً من جهة ما يحتمه الفرض الذي فرضه الله على المسلمين من إقامة حكم الإسلام وحماية بيضة المسلمين. إلاّ أن هذا الفرض هو فرض على الكفاية فإن أقامه بعضهم فقد وجد الفرض وسقط عن الباقين هذا الفرض، وإن لم يستطع أن يقيمه بعضهم ولو قاموا بالأعمال التي تقيمه فإنه يبقى فرضاً على جميع المسلمين، ولا يسقط الفرض عن أي مسلم ما دام المسلمون بغير خليفة.
والقعود عن إقامة خليفة للمسلمين معصية من أكبر المعاصي لأنها قعود عن القيام بفرض من أهم فروض الإسلام، ويتوقف عليه إقامة أحكام الدين، بل يتوقف عليه وجود الإسلام في معترك الحياة. فالمسلمون جميعاً آثمون إثماً كبيراً في قعودهم عن إقامة خليفة للمسلمين. فإن أجمعوا على هذا القعود كان الإثم على كل فرد منهم في جميع أقطار المعمورة. وإن قام بعض المسلمين بالعمل لإقامة خليفة ولم يقم بعضهم الآخر فإن الإثم يسقط عن الذين قاموا يعملون لإقامة الخليفة ويبقى الفرض عليهم حتى يقوم الخليفة. لأن الاشتغال بإقامة الفرض يسقط الإثم على تأخير إقامته عن وقته وعلى عدم القيام به، لتلبسه بالقيام به، ولاستكراهه بما يقهره عن إنجاز القيام به. أما الذين لم يتلبسوا بالعمل لإقامة الفرض فإن الإثم بعد ثلاثة أيام من ذهاب الخليفة إلى يوم نصب الخليفة يبقى عليهم، لأن الله قد أوجب عليهم فرضاً ولم يقوموا به ولم يتلبسوا بالأعمال التي من شأنها أن تقيمه، ولذلك استحقوا الإثم فاستحقوا عذاب الله وخزيه في الدنيا والآخرة. واستحقاقهم الإثم على قعودهم عن إقامة خليفة أو عن الأعمال التي من شأنها أن تقيمه، ظاهر صريح في استحقاق المسلم العذاب على تركه أي فرض من الفروض التي فرضها الله عليه، لا سيما الفرض الذي به تنفذ الفروض، وتقام أحكام الدين، ويعلو أمر الإسلام، وتصبح كلمة الله هي العليا في بلاد الإسلام، وفي سائر أنحاء العالم.
وأما ما ورد في بعض الأحاديث من العزلة عن الناس ومن الاقتصار على التمسك بأمور الدين في خاصته فإنها لا تصلح دليلاً على جواز القعود عن إقامة خليفة ولا على إسقاط الإثم عن هذا القعود. والمدقق فيها يجدها في شأن التمسك بالدين لا في شأن الترخيص بالقعود عن إقامة خليفة للمسلمين. فمثلاً روى البخاري عن بسر بن عبيد الله الحضرمي أنه سمع أبا إدريس الخولاني أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول: «كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت يا رسول الله إنّا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال نعم، قلت وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال نعم، وفيه دخن، قلت وما دخنه ؟ قال قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر، قلت فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت يا رسول الله صفهم لنا، قال هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، قلت فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام، قال فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» فإن هذا الحديث صريح بأن الرسول يأمر المسلم بأن يلزم جماعة المسلمين وأن يلزم إمامهم، ويترك الدعاة الذين هم على أبواب جهنم. فسأله السائل في حالة أن لا يكون للمسلمين إمام ولا لهم جماعة ماذا يصنع بالنسبة للدعاة الذين على أبواب جهنم، فحينئذ أمره الرسول أن يعتزل هذه الفرق، لا أن يعتزل المسلمين ولا أن يقعد عن إقامة إمام. فأمره صريح «فاعتزل تلك الفرق كلها» وبالغ في وصف اعتزاله لتلك الفرق إلى درجة أنه ولو بلغ اعتزاله إلى حد أن يعض على أصل شجرة حتى يدركه الموت وهو على ترك تلك الفرق التي على أبواب جهنم. ومعناه تمسك بدينك وبالبعد عن الدعاة المضلين الذين على أبواب جهنم. فهذا الحديث ليس فيه أي عذر لترك القيام بالعمل لإقامة خليفة ولا أي ترخيص في ذلك، وإنما هو محصور بالأمر بالتمسك بالدين واعتزال الدعاة الذين على أبواب جهنم، ويبقى الإثم عليه إذا لم يعمل لإقامة خليفة. فهو مأمور بأن يبتعد عن الفرق الضالة، ليسلم بدينه من دعاة الضلال ولو عض على أصل شجرة، لا أن يبتعد عن جماعة المسلمين ويقعد عن القيام بأحكام الدين وعن إقامة إمام للمسلمين.
ومثلاً روى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن» فإن هذا لا يعني اعتزال جماعة المسلمين والقعود عن القيام بأحكام الدين وعن إقامة خليفة للمسلمين حين تخلو الأرض من الخلافة، بل كل ما فيه هو بيان خير مال المسلم في أيام الفتن وخير ما يفعله للهروب من الفتن وليس هو للحث على البعد عن المسلمين واعتزال الناس.
وعليه فإنه لا يوجد عذر لمسلم على وجه الأرض في القعود عن القيام بما فرضه الله عليهم لإقامة الدين ألا وهو العمل لإقامة خليفة للمسلمين حين تخلو الأرض من الخلافة، وحين لا يوجد فيها من يقيم حدود الله لحفظ حرمات الله، ولا من يقيم أحكام الدين، ويجمع شمل جماعة المسلمين تحت راية لا إله إلاّ الله محمد رسول الله. ولا توجد في الإسلام أية رخصة في القعود عن القيام بهذا الفرض حتى يُقام به.
انعقاد الخلافة الخلافة عقد مراضاة واختيار، لأنها بيعة بالطاعة لمن له حق الطاعة من ولاية الأمر. فلا بد فيها من رضا من يبايع ليتولاها ورضا المبايعين له. ولذلك إذا رفض أحد أن يكون خليفة وامتنع من الخلافة لا يجوز إكراهه عليها، فلا يجبر على قبولها بل يعدل عنه إلى غيره. وكذلك لا يجوز أخذ البيعة من الناس بالإجبار والإكراه لأنه حينئذ لا يصح اعتبار العقد فيها صحيحاً لمنافاة الإجبار لها، لأنها عقد مراضاة واختيار، لا يدخله إكراه ولا إجبار كأي عقد من العقود. إلا أنه إذا تم عقد البيعة ممن يعتد ببيعتهم فقد انعقدت البيعة، وأصبح المبايَع هو ولي الأمر، فوجبت طاعته. وتصبح البيعة له بيعة على الطاعة وليست بيعة لعقد الخلافة. وحينئذ يجوز له أن يجبر الناس الباقين على بيعته لأنها إجبار على طاعته وهذا واجب شرعاً، وليست هي في هذه الحال عقد بيعة بالخلافة حتى يقال لا يصح فيه الإجبار. وعلى ذلك فالبيعة ابتداء عقد لا تصح إلاّ بالرضا والاختيار. أما بعد انعقاد البيعة للخليفة فتصبح طاعة أي انقياداً لأمر الخليفة ويجوز فيها الإجبار تنفيذاً لأمر الله تعالى. ولما كانت الخلافة عقداً فإنها لا تتم إلاّ بعاقد، كالقضاء لا يكون المرء قاضياً إلاّ إذا ولاه أحد القضاء. والإمارة لا يكون أحد أميراً إلاّ إذا ولاه أحد الإمارة. والخلافة لا يكون أحد خليفة إلاّ إذا ولاه أحد الخلافة. ومن هنا يتبين أنه لا يكون أحد خليفة إلاّ إذا ولاه المسلمون، ولا يملك صلاحيات الخلافة إلاّ إذا تم عقدها له، ولا يتم هذا العقد إلاّ من عاقدين أحدهما طالب الخلافة والمطلوب لها، والثاني المسلمون الذين رضوا به أن يكون خليفة لهم. ولهذا كان لابد لانعقاد الخلافة من بيعة المسلمين. وعلى هذا فإنه إذا قام متسلط واستولى على الحكم بالقوة فإنه لا يصبح بذلك خليفة ولو أعلن نفسه خليفة للمسلمين، لأنه لم تنعقد له خلافة من قبل المسلمين. ولو أخذ البيعة على الناس بالإكراه والإجبار لا يصبح خليفة ولو بويع، لأن البيعة بالإكراه والإجبار لا تعتبر ولا تنعقد بها الخلافة، لأنها عقد مراضاة واختيار لا تتم بالإكراه والإجبار، فلا تنعقد إلاّ بالبيعة عن رضا واختيار. إلاّ أن هذا المتسلط إذا استطاع أن يقنع الناس بأن مصلحة المسلمين في بيعته وأن إقامة أحكام الشرع تحتم بيعته وقنعوا بذلك ورضوا، ثم بايعوه عن رضا واختيار، فإنه يصبح خليفة منذ اللحظة التي بويع فيها عن رضا واختيار، ولو كان أخذ السلطان ابتداء بالتسلط والقوة. فالشرط هو حصول البيعة وأن يكون حصولها عن رضا واختيار، سواء كان من حصلت له البيعة هو الحاكم والسلطان أو لم يكن.
أما من هم الذين تنعقد الخلافة ببيعتهم فإن ذلك يفهم من استعراض ما حصل في بيعة الخلفاء الراشدين وما أجمع عليه الصحابة. ففي بيعة أبي بكر اكتفي بأهل الحَل والعقد من المسلمين الذين كانوا في المدينة وحدها، ولم يؤخذ رأي المسلمين في مكة وفي سائر جزيرة العرب، بل لم يسألوا. وكذلك الحال في بيعة عمر. أما في بيعة عثمان فإن عبد الرحمن بن عوف أخذ رأي المسلمين في المدينة، ولم يقتصر على سؤال أهل الحل والعقد كما فعل أبو بكر عند ترشيح عمر. وفي عهد علي اكتفي ببيعة أكثر أهل المدينة وأهل الكوفة وأفرد هو بالبيعة واعتبرت بيعته حتى عند الذين خالفوه وحاربوه، فإنهم لم يبايعوا غيره ولم يعترضوا على بيعته، وإنما طالبوا بدم عثمان، فكان حكمهم حكم البغاة الذين نقموا على الخليفة أمراً، فعليه أن يوضحه لهم ويقاتلهم، ولم يكونوا خلافة أخرى.
وقد حصل كل ذلك ـ أي بيعة الخليفة من أكثر أهل العاصمة فقط دون باقي الأقاليم إلا في مبايعة الإمام علي حين شارك أهل الكوفة في مبايعته ـ على مرأى ومسمع من الصحابة، ولم يكن هنالك مخالف في ذلك ولا منكر لهذا العمل من حيث اقتصار البيعة على أكثر أهل المدينة مع مخالفتهم في شخص الخليفة وإنكارهم أعماله، ولكن لم ينكروا اقتصار مبايعته على أكثر أهل المدينة، فكان ذلك إجماعاً من الصحابة على أن الخلافة تنعقد ممن يمثلون رأي المسلمين في الحكم، لأن أهل الحل والعقد وأكثر سكان المدينة كانوا هم أكثرية الممثلين لرأي الأمة في الحكم في جميع رقعة الدولة الإسلامية حينئذ.
وعلى هذا فإن الخلافة تنعقد إذا جرت البيعة من أكثر الممثلين لأكثر الأمة الإسلامية ممن يدخلون تحت طاعة الخليفة الذي يراد انتخاب خليفة مكانه كما جرى الحال في عهد الخلفاء الراشدين. وتكون بيعتهم حينئذ بيعة عقد للخلافة. أما من عداهم فإنه بعد انعقاد الخلافة للخليفة تصبح بيعته بيعة طاعة، أي بيعة انقياد للخليفة لا بيعة عقد للخلافة.
هذا إذا كان هنالك خليفة مات أو عزل، ويراد إيجاد خليفة مكانه. أما إذا لم يكن هنالك خليفة مطلقاً، وأصبح فرضاً على المسلمين أن يقيموا خليفة لهم لتنفيذ أحكام الشرع وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم، كما هي الحال منذ زوال الخلافة الإسلامية في اسطنبول سنة 1343 هجرية الموافق سنة 1924 ميلادية حتى يومنا هذا سنة 1415 هجرية الموافق سنة 1994 ميلادية، فإن كل قطر من الأقطار الإسلامية الموجودة في العالم الإسلامي أهل لأن يبايع خليفة، وتنعقد به الخلافة، فإذا بايع قطر ما من هذه الأقطار الإسلامية خليفة، وانعقدت الخلافة له، فإنه يصبح فرضاً على المسلمين أن يبايعوه بيعة طاعة أي بيعة انقياد، بعد أن انعقدت الخلافة له ببيعة أهل قطره، سواء أكان هذا القطر كبيراً كمصر أو تركيا أو إندونيسيا، أم كان صغيراً كالأردن أو ألبانيا أو لبنان. على شرط أن تتوفر فيه أربعة أمور:
أحدها: أن يكون سلطان ذلك القطر سلطاناً ذاتياً يستند إلى المسلمين وحدهم لا إلى دولة كافرة أو نفوذ كافر.
ثانيها: أن يكون أمان المسلمين في ذلك القطر بأمان الإسلام لا بأمان الكفر، أي أن تكون حمايته من الداخل والخارج حماية إسلام من قوة المسلمين باعتبارها قوة إسلامية بحتة.
ثالثها: أن يبدأ حالاً بمباشرة تطبيق الإسلام كاملاً تطبيقاً انقلابياً شاملاً، وأن يكون متلبساً بحمل الدعوة الإسلامية.
رابعها: أن يكون الخليفة المبايع مستكملاً شروط انعقاد الخلافة وإن لم يكن مستوفياً شروط الأفضلية، لأن العبرة بشروط الانعقاد.
فإذا استوفى ذلك القطر هذه الأمور الأربعة فقد وجدت الخلافة بمبايعة ذلك القطر وحده وانعقدت به وحده، ولو كان لا يمثل أكثر أهل الحل والعقد لأكثر الأمة الإسلامية، لأن إقامة الخلافة فرض كفاية، والذي يقوم بذلك الفرض على وجهه الصحيح يكون قام بالشيء المفروض، ولأن اشتراط أكثر أهل الحل والعقد إذا كانت هنالك خلافة موجودة يراد إيجاد خليفة فيها مكان الخليفة المتوفى أو المعزول. أما إذا لم تكن هنالك خلافة مطلقاً، ويراد إيجاد خلافة، فإن مجرد وجودها على الوجه الشرعي تنعقد الخلافة بأي خليفة يستكمل شروط الانعقاد مهما كان عدد المبايعين الذين بايعوه. لأن المسألة تكون حينئذ مسألة قيام بفرض قصر المسلمون عن القيام به مدة تزيد على الثلاثة أيام. فتقصيرهم هذا ترك لحقهم في اختيار من يريدون. فمن يقوم بالفرض يكفي لانعقاد الخلافة به، ومتى قامت الخلافة في ذلك القطر وانعقدت لخليفة، يصبح فرضاً على المسلمين جميعاً الانضواء تحت لواء الخلافة ومبايعة الخليفة، وإلا كانوا آثمين عند الله. ويجب على هذا الخليفة أن يدعوهم لبيعته، فإن امتنعوا كان حكمهم حكم البغاة ووجب على الخليفة محاربتهم حتى يدخلوا تحت طاعته. وإذا بويع لخليفة آخر في نفس القطر أو في قطر آخر بعد بيعة الخليفة الأول وانعقاد الخلافة له انعقاداً شرعياً مستوفياً الأمور الأربعة السابقة، وجب على المسلمين محاربة الخليفة الثاني حتى يبايع الخليفة الأول، لما روى مسلم عن طريق عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر» ولأن الذي يجمع المسلمين هو خليفة المسلمين براية الإسلام. فإذا وجد الخليفة وجدت جماعة المسلمين ويصبح فرضاً الانضمام إليهم ويحرم الخروج عنهم. عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من رأى من أميره شيئاً فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات إلاّ مات ميتة جاهلية» . وروى مسلم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من كره من أميره شيئاً فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلاّ مات ميتة جاهلية» . ومفهوم هذين الحديثين لزوم الجماعة ولزوم السلطان.
ولا حق في البيعة لغير المسلمين ولا تجب عليهم، لأنها بيعة على الإسلام وعلى كتاب الله وسنة رسول الله، وهي تقتضي الإيمان بالإسلام وبالكتاب والسنة. وغير المسلمين لا يجوز أن يكونوا في الحكم، ولا أن ينتخبوا الحاكم، لأنه لا سبيل لهم على المسلمين، ولأنه لا محل لهم في البيعة.