"....لن نتخلى عن الرسوم الساخرة وإن تقهقر البعض، سنتعلّم الفكاهة، سنواصل أيها الأستاذ من أجل الحرّية والعقل،... سنواصل لأن الأنوار لا تنطفئ أبدا في فرنسا، تحيا الجمهوريّة".

هذا بعض ما ورد على لسان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خطابه الأخير بتاريخ 21 تشرين الأول/أكتوبر الجاري خلال مراسم تأبين المعلم الذي قتل مؤخراً بعد عرضه صوراً مسيئة للرسول ﷺ. عقب هذه الحادثة، وليس بعيدا عن مكان التّأبين وتحت حراسة أمنيّة مشدّدة تم نشر الرسوم الكاريكاتوريّة نفسها على واجهات بعض المباني الحكوميّة في فرنسا، كما أصدر رؤساء 13 إقليما فرنسيا كتابا يجمع صور الكاريكاتير السياسية والدينية التي ظهرت في وسائل الإعلام المحلية والوطنية ونشروه في المدارس، هذا وتصاعد خطاب الكراهية في الإعلام الفرنسي الذي ركّز في لقاءاته التلفزيّة على استضافة شخصيّات من اليمين واليمين المتطرّف تحرّض على المهاجرين والمسلمين في فرنسا. وأعلن وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد درمانان، عن انزعاجه من وجود أقسام خاصة بالمنتجات الغذائية الحلال بالمتاجر في بلاده معلّلا ذلك بأن الانعزاليّة أو الطائفية تبدأ بهذا الشكل،... هذا وشنّت فرنسا إثر تصريحات ماكرون حملة اعتقالات طالت مسلمين بينهم قاصران وحُظرت مساجد وجمعيات إسلاميّة وبعض منظمات المجتمع المدني، مع العلم أنّه منذ مطلع سنة 2020 تمّ غلق حوالي 73 مسجدا وجمعيّة، حسب وكالة الأناضول، بحجّة التصدّي للتطرّف الإسلامي.

وتحت البند العريض نفسه "حرّية التعبير" الذي كان مطيّة فرنسا للعبث بمشاعر المسلمين والتهكّم على شعائرهم والاستهزاء بمقدّساتهم بالرّغم من قرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في 25 تشرين الأول/أكتوبر من عام 2018 الذي يقضي بأن الإساءة للنبي محمد ﷺ لا يمكن إدراجها ضمن حرية التعبير عن الرأي، قضت محكمة فرنسية بسجن طالبة مسلمة، علّقت على منشور بالفيسبوك باستحقاق صامويل باتي الموت، أربعة أشهر مع وقف التنفيذ والخضوع لدورة مواطنة لمدة ستة أشهر. في وقت يستمر فيه التحقيق مع والد تلميذة، كان هو من قاد حملة ضد المدرس على مواقع التواصل.

هذا التباين والازدواجيّة في التعامل مع الحرّيات وقيم الجمهوريّة التي تروّج لها فرنسا ليس جديدا عليها، وهذه المبادئ المرتعشة التي تقرّ بشرعيّة التندّر بالإسلام في إطار الحرية وتعلّم "الفكاهة" مستفزّة بذلك المسلمين ومؤججة نار الإسلاموفوبيا هي نفسها التي منعت كراهية وانتقاد الصهيونيّة واعتبرته شكلا من أشكال معاداة السامية حين صادق مجلس النواب الفرنسي في شباط/فبراير 2019 على مشروع قانون جرّم معاداة الصهيونيّة. فحتّى تعبير المسلمين عن غضبهم وهبّتهم في العالم أجمع لمقاطعة المنتجات الفرنسيّة نصرةً لنبيّهم اعتبره ماكرون المتأزّم "أقلية متطرّفة"، وأصدرت الخارجيّة الفرنسيّة بيانا تطالب فيه بوقف المقاطعة. فما حقوق الإنسان في الغرب إلا تنصيص على أن البقاء للأقوى، فتراهم يحاربون الإسلام لمقتل فرد أو أفراد، وفي كل السيناريوهات يُسند الفعل فيها لمسلمين ليتسنّى لهم محاربة الإسلام باسم الإرهاب، بينما يمرّ تذبيح الملايين من المسلمين مرور الكرام أمام المحاكم والمنظمات الدّولية! فكم من مخاضة من دمائهم ترك الغرب وراءه بدم بارد؟! ولذلك لا يخرج النظام الرأسمالي بقيمه وحرّياته وتنظيراته من دائرة السمسرة الدنيئة والنفاق المركّب، وهذا جليّ في تضامن بريطانيا ودعوة خارجيّتها أعضاء حلف الناتو للاصطفاف مع ماكرون دفاعا عن حرية التعبير، إضافة إلى ألمانيا والبقيّة لاحقة.

قال الله تعالى في محكم تنزيله: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ [الحجر: 95]، فقد أعزّ الله نبيّه وكفاه الاستهزاء حيّا وميّتا وحفظ دينه، ولكننا نحن مَن في حاجة إلى إثبات حبّنا له واقتدائنا به. ما كان لأعداء الإسلام أن يستخفّوا بملياري مسلم لو كانت هناك دولة تجمعهم، وما كان لماكرون أن يتجرّأ على أشرف الخلق لو كان للمسلمين إمام جنّة يذبّ عن حياض دينهم.

لقد غضبت الأمّة غضبة رجل واحد فقامت بما يمكنها فعله، ندّدت وتظاهرت واحتجّت وقاطعت ولكنّها لا تستطيع الاقتصاص لرسولها الكريم، ولنا في نماذج العزّ والكرامة مع السلطان عبد الحميد الثاني وغيره دروس وعبر... إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، فليس غير دولة الإسلام تقطع ألسنة السوء.

نقول لماكرون وأمثاله، لقد أعلنت حضارتكم سقوطها، وانطفأت جميع شعارات التنوير الدّامسة، ولن تضيء فرنسا إلا بأنوار الإسلام، وصدق الشيخ الإدريسي حين قال: "إنّ الإسلام إذا حاربوه اشتد، وإذا تركوه امتد، والله بالمرصاد لمن يصدّ، وهو غنيّ عمّن يرتدّ، وبأسه عن المجرمين لا يُردّ، وإن كان العدوّ قد أعدّ، فإنّ الله لا يعجزه أحد، فجدّد الإيمان جدّد، ووحّد الله وحّد، وسدّد الصّفوف سدّد".

كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
م. درة البكوش