أعلنت السفارة الأمريكية بالخرطوم عن وصول أولى شحنات القمح التي تعهدت الولايات المتحدة بتقديمها للسودان قبل أسابيع وتبلغ قيمة الشحنة 20 مليون دولار. (سودان تربيون 13 كانون الأول/ديسمبر 2020م). ويعاني السودان منذ أشهر من أزمة في توفير الخبز والوقود، نتيجة لشح النقد الأجنبي، مع انهيار سعر الجنيه السوداني مقابل العملات الأخرى، وضعف الصادرات السودانية. وتستمر أزمة الخبز في العاصمة بسبب شح الدقيق فيما لحقتها مؤخرا أزمة حادة في الغاز الذي تحتاجه المخابز الآلية، فتوقفت مئات المخابز عن العمل لعدم قدرتها على الحصول على الغاز، ويشكو أصحاب المخابز من نقص حاد في حصص الدقيق، إلى جانب ارتفاع تكاليف التشغيل مقابل تدني سعر قطع الخبز.

في الماضي القريب كان أهل السودان يستهلكون الذرة كغذاءٍ رئيسيٍّ بنسبة 100% وبعد أن أدخلت المعونات الأمريكية القمح، انخفض استهلاك الذرة بنسبة 25% لصالح القمح في العام 1960، ثم أخذ استهلاك الذرة والدخن يتراجع تدريجياً، حتى أصبح القمح الغذاء الرئيس لأهل السودان، وبهذا تم تغيير أنماط الاستهلاك واستبدل القمح بالذرة والدخن، ولا يخفى تأثير القوى العالمية الغربية في تغيير أمزجة الشعوب المغلوبة على أمرها لجني المصالح من وراء ذلك، خاصة بعد أن أصبحت التجارة الدولية حلقة من حلقات الصراع الدولي وأصبحت تجارة القمح سلاحاً استراتيجياً يؤثر على سيادة الدول وقرارها. وقد شهد استهلاك القمح في السودان تزايداً مضطرداً نتيجة لارتفاع معدل السكان، وتصاعد معدلات الهجرة من الريف إلى الحضر، فأصبح القمح من السلع الاستراتيجية التي تحتكرها الحكومات المتعاقبة في إيحاء بأهميتها.

وفي خطوة أشبه باليقين والاطمئنان، قال رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، لدى ترؤسه اجتماع اللجنة العليا لإنجاح الموسم الزراعي 2020م، إن الإنتاج غير المسبوق لمحصول القمح خلال الموسم الشتوي، كان نتيجة لتضافر الجهود الرسمية والشعبية بالبلاد. وأكد حمدوك أن التنمية الحقيقية تقوم على القطاع الزراعي الذي يعدّ المخرج للسودان من الأزمات الاقتصادية، مبيناً أن الموارد والإمكانات الزراعية التي يزخر بها السودان تجعله صمام أمان الأمن الغذائي بأفريقيا والعالم العربي! لكن نجاح الموسم الشتوي لم ينعكس على توفر رغيف الخبز وكأن القمح (فص ملح وذاب)! وتبقى كلمات المسؤولين الخادعة تتجدد وتتنوع ممنية الناس بتغيير مرتقب! ولكن هذه المرة على لسان وزير الزراعة والموارد الطبيعية، عيسى عثمان شريف، في اجتماع اللجنة العليا لإنجاح الموسم الزراعي، حيث استعرض معظم التحديات التي تواجه القطاع الزراعي عموماً، والترتيبات التي جرت من أجل إنجاح الموسم الزراعي الصيفي المقبل بصفة خاصة، وأشار إلى أن الزراعة تمثل العمود الفقري للاقتصاد السوداني ونقطة الانطلاق لكل القطاعات الاقتصادية الأخرى، مبيناً أن الوزارة تبذل جهوداً في عملية الإرشاد الزراعي ونقل التقانة إلى جانب تنظيم المزارعين في جمعيات التعاون الزراعي، وذلك من أجل إحكام التنسيق بين جميع الجهات ذات الصلة بالعمليات الزراعية. وينام الإنسان البسيط ويصبح على كلمات المسؤولين وبطنه خاوية، وجسمه واهن، لأن الجوع لا تسده الكلمات، والأغرب من ذلك أن يعلن رئيس الوزراء أن دفع تعويضات الولايات المتحدة كان على حساب حليب الأطفال ودواء المرضى!

في ظل سياسات فاشلة يتنافس المسؤولون على الخطب الرنانة بعيداً عن مشاكل الناس، رغم غنى السودان بالموارد! إذ يعدّ القطاع الزراعي من أكبر القطاعات الاقتصادية في البلاد، ويعتمد ما يقارب 80% من أهل السودان على الزراعة، ويشارك القطاع الزراعي بنحو 44% من إجمالي الناتج المحلي، ويعدّ المحرك الرئيسي للصناعات الزراعية، ومدّها بالمواد الخام. ويمتلك السودان نحو 200 مليون فدان صالحة للزراعة؛ المستغل منها لا يتجاوز 25 في المائة فقط، والباقي من الأرض البكر ينطبق عليه قصة زيدان الكسلان الذي يؤجل الزراعة كل يوم حتى انتهى الموسم وهو نادم، فقد أعلنت وزارة الزراعة أنها تستهدف زراعة نحو 64 مليون فدان في العروة الصيفية هذا العام، منها 4 ملايين فدان في القطاع المروي، و60 مليون فدان في القطاع المطري، ولكن لم يعلم أحد عن حصاد هذه الزراعة، وهل فعلاً تمت زراعة هذه المساحة؟! كل ذلك تمهيدا ليستبدلوا بالإنتاج الاستثمارات الأجنبية التي تنهب ثروات البلاد تحت ذريعة التمويل.

وبالفعل فقد أعلنت الحكومة الانتقالية عن مشاريع قوانين وخطط يجري العمل عليها من أجل خلق بيئة استثمارية جاذبة لرؤوس الأموال العربية والأجنبية، للاستفادة من المقومات الطبيعية التي يتمتع بها السودان، لتحقيق الأمن الغذائي المحلي والعربي، وأكد وزير الزراعة، في تصريحات سابقة، أن 6 جهات دولية أبدت رغبتها في تمويل عمليات إعادة تأهيل المشروعات الزراعية الكبرى بالبلاد، والتي تعرضت لتدمير ممنهج خلال العقود الثلاثة الماضية. وقال إن الحكومة ترتب لإطلاق صندوق استثماري ضخم لتعزيز الإنتاج في المجالات التي تصب في اتجاه تحقيق الأمن الغذائي المحلي والعربي، وتوقع أن يشكل الصندوق أساساً قوياً لنهضة زراعية غير مسبوقة في السودان، وهو كلام للاستهلاك وذر للرماد في العيون.

إن الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك كبيرة، فقد أشار مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية بالسودان (أوتشا) في تقرير لبعثة تقييم إمدادات المحاصيل والغذاء إلى السودان، الصادر في شباط/فبراير 2020، إلى أن إنتاج القمح السوداني هذا العام يقدر بنحو 726 ألف طن، وهو ما يمثل نحو 25 في المائة من إجمالي استهلاك البلاد للقمح البالغ 2.9 مليون طن، مما يشير إلى أن السودان يحتاج هذا العام إلى استيراد نحو 2.2 مليون طن من القمح... واستورد السودان نحو 2.7 مليون طن من القمح ودقيق القمح في عام 2019، بنحو 1.1 مليار دولار، وفقاً لتقرير عن التجارة الخارجية صادر عن بنك السودان المركزي. ولتغطية الفجوة في محصول القمح، وقّعت الحكومة السودانية مع "برنامج الغذاء العالمي" في 13 نيسان/أبريل الماضي اتفاقية لاستيراد 200 ألف طن متري من القمح، وتعادل هذه الكمية نحو 10 في المائة من واردات القمح المطلوبة للسودان للعام 2020، لكن الحكومة الانتقالية تقترب من عامها الثالث، وهي فاشلة في توفير رغيف الخبز، ولم تنخفض فاتورة الاستيراد، ولم تقل نسبة الاستهلاك، بل زادت الفجوة وفاقت 500% لصعوبات وعوائق ظلت تواجه زراعة القمح في أكبر مشروع ذي إدارة موحدة في العالم (مشروع الجزيرة)، الذي تبحث إدارته عن أبسط الحلول لفتح الترع وتسهيل الري الانسيابي فلا تجد سوى الوعود، كما نقلت وكالة السودان للأنباء لقاء حمدوك بعضو المكتب الرئاسي لاتحاد مزارعي الجزيرة والمناقل، وعضو مجلس إدارة مشروع الجزيرة، وتطرق اللقاء لنقاش موضوع الري في مشروع الجزيرة باعتباره المحرك الأساسي للعملية الإنتاجية بالمشروع، علماً بأن هناك مشاكل تتعلق بالكراكات والتمويل، وهذا يعني فشلاً في أبسط الأمور التي بالإمكان حلها لو امتلكت الحكومة إرادة وقراراً سياسياً حكيماً.

إن حالة الإحباط الذي يعيشها أهل السودان من ضعف أداء الحكومة الانتقالية، وفشلها في حل الأزمات الاقتصادية التي تحيط بالبلاد تبلغ الذروة، ففي كل موسم زراعي تبشر الحكومة بالإنتاجية العالية لمحصول القمح في موسم الحصاد ولكن على أرض الواقع، يظل حلم تحقيق اكتفاء ذاتي من الدقيق وحل أزمة الخبز حلماً يراوح مكانه، رغم أن السودان هو أحد أكبر ثلاثة بلدان أفريقية مساحة، وأحد أهم بلدان العالم التي تتوفر فيها المياه والأراضي الصالحة للزراعة، إلا أن زراعة القمح فيها لا تزال غير كافية لتغطية الاستهلاك المحلي الذي يتجاوز مليوني طن من القمح سنويا، في حين ينتج السودان حوالي 12 إلى 17% من هذا الاستهلاك السنوي رغم أكثر من 200 مليون فدان من الأراضي الزراعية الخصبة، ويجري بين ظهرانينا نهر النيل ويهطل علينا من السماء ماء يقدر بحوالي تريليون متر مكعب، وبعد ذلك نستورد القمح! هذا إنما يدل على فشل في السياسات وفشل السياسيين الذين يستجدون الحلول من صندوق النقد والبنك الدوليين، بالإضافة إلى أن الحكومات ترهن القرار السياسي والاقتصادي وتخضعه لمصالح الدول الكبرى التي تتحكم بسلعة القمح. لذلك فإن كلمة السر في هذا الفشل هي عمالة الحكام الخونة!

لقد تحطمت آمال أهل السودان العريضة في ظل هذه الحكومة التي أصبحت ترقص على جثث الجوعى في تمثيلية إدماج السودان في المجتمع الدولي، كما أن المشكلة تكمن أيضا في وجود ساسة لا يفهمون ولا يطبقون إلا النظرية الرأسمالية التي تقول بمحدودية الموارد، والله الخبير العليم يقول: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾، ساسة يمتلكون الثروة أو يملّكونها للرأسماليين والإسلام يأمر بتحسين توزيع الملكيات والثروات، فلا يكون المال دولة بين الأغنياء فقط، وتحتكر الدولة سلعة القمح والإسلام يمنع احتكار السلع والأسواق، ويعطي كل ذي حق حقه فلا يتملك الأغنياء فقط الأراضي الشاسعة، وإنما تُعطى لمن يحييها وتعينه الدولة على إحيائها، يقول النبي ﷺ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضاً مَوَاتاً فَهِيَ لَهُ«. فكيف نبحث عن حلول وديننا هو الحل؟! فقد حكم وكان خير مثال طبق ونجح في علاج كل مشكلات البشر، حتى إن من خلفائنا من قال "انثروا القمح على رؤوس الجبال كي لا يُقال جاع طير في بلاد المسلمين"، ولنا في عمر رضي الله عنه خير مثال؛ فلما أصاب الناس القَحط في عام الرمادة كان لا ينام الليل إلا قليلاً، وما زال به الهمّ حتى تغيّر لونه وهزل، وقال من رآه: "لو استمرّت المجاعة شهوراً أخرى لمات عمر"، وذلك من شدة الهمّ والأسى لحال المسلمين. فكان أول من جاع عام الرمادة وآخر من أكل عندما شبع الناس، وعندما وُضع أمامه اللحم قال: "لقد آليتُ على نفسي أن لا أذوقَ السمن واللحم حتى يشبعَ منهما المسلمون جميعاً"؛ إنها الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، فكونوا لها من العاملين.

كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
غادة عبد الجبار (أم أواب) – الخرطوم