بسم الله الرحمن الرحيم


ما بين وثيقة مكة ووثيقة المدينة

قبل أربعة عشر قرنا ونيف كتب الرسول عليه الصلاة والسلام وثيقة المدينة وهي أول عمل عمله عليه الصلاة والسلام بعد وصوله إلى المدينة حاكما وقائداً فوق كونه نبيا ورسولا، وكانت الوثيقة كما يقول الطبطبائي أول دستور كتب في التاريخ، وكانت بنوده حوالي اثنين وخمسين بندا نصفها أو ما يقارب نصفها تضبط علاقة المؤمنين من ساكني المدينة بعضهم ببعض، والنصف الآخر يعالج العلاقة بين أهل الإيمان من جهة وبين غيرهم من أهل الذمة وكل من يحمل تابعية الدولة الجديدة. واليوم وبعد ما يزيد على أربعة عشر قرنا تطل علينا منظمة المؤتمر الإسلامي بمشاركة حوالي مائة وأربعين دولة لتكتب ما تسمى وثيقة مكة وتعتمدها في بلدها، وكانت الوثيقة التي تم التوقيع عليها قد شارك فيها ما يزيد على ألف ومائتي عالم من علماء المسلمين وكانت السعودية تحت رعاية ابن سلمان قد وضعت صفحاتها السبع قبل سنة قبل أن يجري التوقيع عليها واعتمادها منذ أيام قليلة حيث سيجري تعميمها على المؤسسات التعليمية في المدارس والمعاهد والجامعات وفي المؤسسات الثقافية والبحثية.

إن أبرز ما تضمنته وثيقة مكة من بنود والذي كان ربما علة كتابتها والسبب في جمع هذا العدد من العلماء والدول حولها هو (محاربة الإرهاب) والدعوة إلى (مبادئ التسامح والتفاهم المتبادل بين الشعوب من مختلف الثقافات والشرائع)، فكان عنوان الوثيقة الأبرز (متحدون ضد الإرهاب من أجل السلم)، وكأن سبب التخلف الاقتصادي والسياسي سببه الإرهاب، وكأن المسلمين تحت ظل هذه الأنظمة كانوا يعيشون حياة رغد قبل الإرهاب الذي صنعه الغرب الكافر قبل عقدين من الزمن.

إن وثيقة المدينة (دستور المدينة) هي دستور وضع بنوده عليه الصلاة والسلام بصفته رئيسا للدولة ولم يشارك بوضعه الروم أو الفرس أو يهود المدينة وإنما وضعه الرسول لتكون كلمة الإسلام هي العليا وأنظمة الإسلام وقوانينه هي المهيمنة على كل الشرائع والأديان وهذا ظاهر من بنود الوثيقة؛ فقد جاء فيها (إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ أَيْدِيهِمْ عَلَى كُلِّ مَنْ بَغَى عَلَيْهِمْ)، (وَإِنَّ سِلْمَ الْمُؤْمِنِينَ وَاحِدَةٌ وَحَرْبَهُمْ وَاحِدَةٌ)، (وَأَنَّ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَمَرَدُّهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ)... فهذا بعض ما جاء في الوثيقة، فليس فيها محاربة الإرهاب ولا وجوب التعايش بين الأديان ولا قبول الآخر، فاليد العليا والقوانين النافذة وضعها عليه الصلاة والسلام ليحكم من تحته من يهود وغيرهم. فالوثيقة كانت عبارة عن دستور مكتوب غايته وضع القوانين والأنظمة التي تضبط علاقة الدولة الوليدة برعاياها من مسلمين وغير مسلمين، ولم يشارك في وضعها وكتابتها أحد البتة من غير المسلمين من سكان المدينة، فهي دستور لدولة إسلامية قائدها النبي عليه الصلاة والسلام وليست عقدا اجتماعيا يشارك الجميع بوضعها ولا دستورا لدولة مدنية يجعل الله والإنسان فيها سواء.

إن الاجتماع الذي حصل قبل سنة في مكة وجرى اعتماد بنوده قبل أيام من الدول وبمباركة أكثر من ألف عالم من علماء المسلمين بحيث يفرض فرضاً على المعاهد والجامعات والمراكز البحثية والثقافية لا يشبه وثيقة المدينة بحال ولا علاقة له بدستور، وباعثه وعلته هو التطبيع وشكل العلاقة الجديدة مع كيان يهود والاتفاقات الإبراهيمية والذي فرضته أمريكا على الحكام أو لنقل الذي فرضت كشفه، وإلا فإنها كانت لا تمانع بورقة التوت التي تغطي سوءة الحكام والآن تريد نزع كل أوراق التوت فلم يعد العمل مسموحا به تحت الطاولة بل إن محاربة الإرهاب والتطبيع واتفاقيات ما يسمى تحرير المرأة، كل ذلك يجب أن يكون علناً وعلى الفضائيات وبالصوت والصورة، وإلا ما علاقة هذه الوثيقة التي وقعت في مكة بوثيقة المدينة؟! فالثانية وضعت بنودها لتكون دستورا لدولة، أما الأولى فجاءت على العكس من ذلك تماما فقد جاءت لمحاربة (الإرهاب) مع أن المؤتمرين دولا وعلماء يعلمون أن الإرهاب في اصطلاح الدول الآن مرادف للإسلام، وكذلك تتحدث وثيقة مكة عن التعايش بين الأديان والثقافات والأعراف والمذاهب المختلفة... ألم تكن أرض الإسلام طوال ثلاثة عشر قرنا فيها من الأديان والمذاهب المختلفة والعقائد الكثير ولم يكن هذا الأمر ذا بال؟ فلماذا الآن يجعل لهذا الأمر وثيقة ومؤتمر وعلماء وتوقع في مكة وتسمى وثيقة مكة؟! وما كان هذا ليكون بهذا التوقيت إلا بعد أن أمرت أمريكا الدول والحكام وأمرتهم بالتطبيع فانساقوا وراءها انسياق القطيع خلف ضبع مفترس وساقتهم سياقة الأغنام إلى مذبحها.

إن الحكام لا شيء يفعلونه ونستغربه أو نستهجنه، وإنا إذ تتفطر قلوبنا وتدمع عيوننا على من قضى عمره بين الصيام والصلاة والقيام من العلماء ثم تجده يوقع على ما سمي وثيقة مكة وقد كان ينبغي له أن يقف موقفا يرضي الله سبحانه وتعالى، قد كان بإمكان من قضى حياته بين الكتاب والسنة أن يصرخ بأعلى صوته هل الإسلام الذي رسخ قيم التسامح والتفاهم بحسب الوثيقة، أليس فيه أحكام تحث المسلمين ليحرروا أرضهم ويستعيدوا ديارهم وأموالهم؟ أليس فيه أحكام تلزم الحاكم أن يطبق الإسلام ويحكم بشريعته؟ ثم من قال إننا بحاجة إلى عالم يوضح لنا أحكام أهل الذمة وقد شهد أهل الذمة قبل غيرهم كيف عاشوا في ظل دولة الإسلام وقد كانت الدولة الإسلامية تعدل فيهم أكثر من بني جلدتهم؟ كان ينبغي للعلماء ورثة الأنبياء أن يقولوا في بيت الله الحرام إن حرمة دم المسلم أعظم من حرمة البيت الحرام فعلام تسفك الدماء الحرام في الشام وأفغانستان والعراق...؟ ولماذا يمد الحكام أيديهم لمن يلغ في دماء المسلمين في ليله ونهاره؟ كان ينبغي أن تقولوا للحكام إذا كان الإسلام هو الحاكم فإن الاجتماع سيكون كعدمه لأن مواضيع البحث حينها لن تكون ذات بال، أما وأحكام الإسلام قد غاضت منذ قرن من الزمان وأحكام الكفر تلف المسلمين وتحيط بهم إحاطة السوار بالمعصم؟! كان ينبغي قبل مقابلة وثيقة مكة المزعومة بوثيقة المدينة أن يقول العلماء إن سلم المسلمين واحدة وحربهم واحدة وأن ذلك لا يكون إلا بأن تكون دولتهم واحدة ورايتهم واحدة.

شتان بين وثيقة وضعها الوحي وبين وثيقة وضعتها أمريكا! شتان بين دستور وضعه رسول الله ﷺ لتصبح دولته بعده أعظم دولة عرفتها البشرية وبين دول ليس لها من اسمها نصيب كالهر يحاكي انتفاخا صولة الأسد!

كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
الأستاذ خالد الأشقر (أبو المعتز بالله)