بسم الله الرحمن الرحيم

تغيير المناهج في السودان إلى أين؟!



أصدر مكتب رئيس الوزراء السوداني تصريحاً صحفياً يوم الأربعاء الماضي 6/1/2021م أعلن فيه تجميد العمل بالمنهج الدراسي الجديد الذي وضعه مدير المناهج لحكومة الثورة وتكوين لجنة قومية تضم التربويين والعلماء المتخصصين وتمثل كافة أطياف الآراء والتوجهات في المجتمع لتعمل على إعداد المناهج الجديدة حسب الأسس العلمية المعروفة في إعداد المناهج وتراعي التنوع الثقافي والديني والحضاري والتاريخي للسودان، ومتطلبات التعليم في العصر الحديث، حسب قوله. وقد جاء هذا التجميد بعد أن وجد المنهج الجديد رفضا واسعاً من قطاعات مختلفة مما تسرب منه من معلومات حيث رفضه أساتذة، ومعلمون، وأحزاب، وجماعات، وأئمة... وأفتى حتى المجمع الفقهي للدولة بحرمته، كما رفض النصارى تدريس مادة التربية المسيحية الموجودة بالمنهج، ورفضه حتى البنك الدولي. وقد ضجت وسائل التواصل الإلكترونية بهذا الرفض غير المسبوق وأخيراً تحرك مجلس الوزراء وجمّده بعد أن لم يجد من يقبله.



ولمناقشة هذا الموضوع لا بد في البدء أن نعرف أولاً من نحن؟ ولماذا تضع الدولة منهجاً للتعليم؟ وما هي أهدافها؟ وما هي الأسس التي يوضع على أساسها المنهج التعليمي؟



وللإجابة على هذه الأسئلة نقول: إن الأمة لا تولد ولا تعيش بدون الثقافة التي تمثل العمود الفقري لها، فهي التي تحدد هويتها، ونمط عيشها، وتنصهر بها، فتكون أمة متميزة عن غيرها، وبها تتشكل شخصيات أفرادها، وعليها تكون رسالتها التي تريد إيصالها لغيرها من الشعوب والأمم ليلحقوا بها، فهي حضارتها، وعقيدتها، ومنها تأخذ أنظمتها وأحكامها التي تعالج بها قضاياها وتحل بها مشكلاتها، وبدون هذه الثقافة تنطمس الأمة وتتفرق شذر مذر إن لم تمحَ من الوجود، أو تذوب في غيرها، لذلك نجد أن كل دولة تحترم نفسها بدأت بهذه الثقافة، فتربي أبناءها وأجيالها عليها، وتجعل ذلك في أعلى سلم أولوياتها، وتحرص عليها كل الحرص، وتدأب على تصفية هذه الثقافة وتنقيتها من أي شائبة قد تختلط بها فتغير شيئاً من أسسها أو أحكامها، أو تطعن في مقدساتها. ولا شك أن التعليم هو الطريق الوحيد لبناء الشخصيات بهذه الثقافة، فهو الّذي يكوّن العقليّة والنفسيّة المتميزة التي تحكم، وتعالج، وتبني، وتعمّر، وتتحمّل المسؤولية التي تسعى لتحقيق الأهداف والغاية التي من أجلها تعيش الأمة.



وبالنظر إلى منهج التعليم في السودان الذي تم تجميده والمراد إعداده ومنذ الوهلة الأولى، نجد أنه لم يُبن على عقيدة الإسلام؛ التي هي عقيدة الأمة، وذلك واضح من خلال التصريح الصحفي نفسه، والذي لم يتطرق لكلمة الإسلام مطلقاً، بل تحدث بدلاً عن ذلك عن التنوع الديني، والثقافي، والحضاري، والتاريخي، من أجل طمس هوية الأمة، وهذا ما ظل يفعله المستعمر البريطاني منذ احتلال السودان في العام 1898م، حيث أولى مسألة التعليم عناية فائقة حين عيّن الكافر جيمس كري مسؤولاً عن المعارف بعد شهرين فقط من الاحتلال، ليشرف بنفسه على نشر ثقافته في البلد، وبالمقابل طمس الثقافة الإسلامية! ثم مضى ليفتتح عدداً من المدارس الأولية، منها المدرسة الصناعية بمدينة أم درمان في العام 1900م، وفي العام نفسه أنشأ المستعمر معهد تدريب المعلمين، وأشرف عليه بنفسه، كما دعا كتشنر البريطانيين للتبرع لإنشاء كلية غردون التذكارية، وكانت الاستجابة أكبر مما يُتصور حيث دفعوا لها 120 ألف جنيه إسترليني، فافتتحها اللورد كرومر في 5 كانون الثاني/يناير 1899م، وعملت أولاً كمدرسة أولية، وفي العام 1935 قدم (ج. س. أسكوت) مفتش التعليم مذكرة انتقد فيها منهج التعليم، وشكل لجنة برئاسة مدير مصلحة المعارف ونتر ومعه مستر أسكوت، وغريفث، والسكرتير الإداري، وركزت على المدارس الأولية، وإعداد المعلمين. ثم أنشأت بريطانيا بخت الرضا.



فمنذ ذلك الوقت نجد أن المستعمر يشرف عن قرب على إعداد المناهج، وتنقيتها، ومراجعتها أولاً بأول، حتى لا تخرج عن خطه الذي رسمه لتركيز ثقافته وحضارته، فأينعت ثمرته، فتخرج منها هؤلاء العملاء في السياسة، والاقتصاد، وفي مختلف المجالات، هؤلاء العملاء العاجزون عن معالجة أي مشكلة، فظلت مشاكل السودان موجودة منذ خروج المستعمر إلى يومنا هذا، بل أصبح الناس يرون أننا نسبح عكس التيار، فبينما تتقدم الشعوب يسير السودان من سيئ إلى أسوأ، وأننا ندور في دائرة مفرغة لا آخر لها في ظل هذه الأنظمة.



أما الساسة والاقتصاديون فحدث ولا حرج، فقد خنعوا تماماً للغرب المستعمر، وأصبحوا عملاء يخدمون مصلحته فقط، ولا يعرفون حلاً لمشكلاتنا إلا بالخضوع له وعبر روشتاته وإملاءاته، وانتظار معوناته، مع أن الغرب يأكل ويشرب من ثروات بلادنا التي ينهبها بلا ثمن ثم يرمي لهم فضلاته فيستبشرون بها! هذا الغرب المستعمر قد وضع منهج تعليمه بناء على وجهة نظره هو في الحياة، وشكل شخصيته بناء على ذلك وعندما استعمر بلادنا استعمرها ليعيش هو لا نحن. هذا الواقع الذي أوجده لنا المنهج التعليمي للمستعمر.



وإذا أردنا أن نضع منهجاً تعليمياً يغير حياتنا ويرفع من شأننا ويرضي ربنا فلا بد من مراعاة هدفين يجب تحقيقهما:



1- أن يشكل الشخصية الإسلامية للمتلقي ببناء عقليته، ونفسيته، وذلك بغرس العقيدة الإسلامية فيه.



2- إعداد أبناء المسلمين ليكون منهم العلماء المختصون في كل مجالات الحياة، سواء في العلوم الإسلامية؛ من اجتهاد وفقه وقضاء وتفسير... أو في العلوم التجريبية من هندسة، وكيمياء، وطب...الخ.



أما الأسس التي يوضع على أساسها المنهج فهي الثقافة الإسلامية، وما تحتويه من معارف؛ كالقرآن الكريم والسيرة النبوية المطهرة، وكتب الحديث الشريف، وكتب الفقه، وأصول الفقه، وكتب التفسير، واللغة العربية، وكذلك التاريخ الإسلامي، وهي في مجموعها تمثل ثروة عظيمة لا يوجد مثيل لها عند أي أمة أخرى، وهي قادرة على إيجاد الشخصية الإسلامية المتميزة القادرة على الإبداع وإعمار الأرض.



وبالعودة للدولة الإسلامية نجد أن المسلمين استطاعوا في فترة وجيزة، أن يحتلوا المرتبة الأولى في العالم، وبرز علماء مسلمون في مختلف المجالات، بل ومنهم من خلدت أسماؤهم في الأرض إلى يومنا هذا، مثل البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي وغيرهم، في جمع الحديث وتصنيفه، وهناك أئمة الفقه؛ مثل الإمام مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم كثر، في الفقه وأصول الفقه، ونجد الإمام الطبري والقرطبي وابن قدامة وآخرين في التفسير، ومن قبلهم صحابة رسول الله ﷺ الذين حفظوا لنا الدين نقيا، وأخلصوا له، وقدموا أرواحهم وأموالهم فداء لرسول الله ﷺ كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وسلمان الفارسي وصهيب الرومي وغيرهم كثر، رضي الله عنهم أجمعين، وهناك الخلفاء الراشدون والقادة الفاتحون الذين حملوا الإسلام وانطلقوا به في أرجاء الأرض، كهارون الرشيد الذي كان يقول للسحابة أمطري حيث شئت فإن خراجك عائد إلينا، وكصلاح الدين الأيوبي قاهر الصليبيين، ومحمد الفاتح نعم الأمير أميرها ونعم الجيش ذلك الجيش، والسلطان عبد الحميد الثاني، الذي فضل أن يقطع جسده بالمبضع قطعة قطعة ولا يسلم فلسطين ليهود، وهناك العلماء الذين برعوا في مجالات الطب والكيمياء والفلك والرياضيات ومختلف العلوم الدنيوية، حتى إن بلاد المسلمين كانت كالضوء الساطع وسط العتمة، يقصدها كل الطلاب من مختلف أرجاء العالم ليعيشوا فيها، ويتعلموا وينعموا بالعدل والإحسان بلا منٍّ ولا أذى.



هكذا كانت الأمة الإسلامية عندما كانت لها دولة تنشئ النشء بالإسلام، وتوفر التربة الخصبة لإنبات قادة الخير الذين يصدرون الخير للناس، لا قادة الشر كحكام أمريكا وأوروبا، أمة تنبت الرجال لا أشباه الرجال كحكام المسلمين وعلماء السوء اليوم. رجال يخافون الله لا حكام الغرب، وحملة دعوة لا يخشون في الله لومة لائم، وحكام عدول يقضون بالحق ولو على أنفسهم وأبنائهم وإخوانهم، لا حكاماً يمنحون أنفسهم وأبناءهم وإخوانهم حصانة من الملاحقة القضائية كحكام اليوم...



وإن ذلك لا محالة عائد من جديد بعزم الرجال حملة الدعوة ليحققوا وعد الله القائل سبحانه: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.





كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

محمد منير – ولاية السودان