بإيجاز يمكننا أن نلخص كيف سارت الأمور في مصر من الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير 2011م وحتى الآن لنرى كيف تم تدوير نظام مبارك، فبرغم تنحي مبارك وابتعاده عن السلطة إلا أن نظامه ظل متماسكا ولم يسقط. كل الذي حدث أنه تم تدويره وتغيير بعض الوجوه:

1. خرج الناس على نظام مبارك، وكان الواجب شرعاً وعقلاً، على القوى السياسية الإسلامية في مصر أن تستغل هذه الهبَّةَ، وأن تعمل على تحكيم شرع الله وتنادي بذلك، من خلال بناء دولة إسلامية حقيقية، تقوم لتكنس كل النظام السابق، فهو سبب المآسي كُلِّها، وهو من يقف حائلا بين المسلمين وبين تطبيق الإسلام في دولة الخلافة. ولكن هذه القوى الإسلامية وللأسف الشديد لم تستغل الرأي العام المتجذر للإسلام، ولم تبن عليه عملاً ومطالبةً بتحكيم الإسلام، وبناء دولة خلافة تجمع المسلمين، ولو أنهم فعلوا لوقف الناس بجانبهم وأيدوهم، فهم محبون للإسلام، وعندهم استعداد للتضحية في سبيله.

2. لقد رأت أمريكا أن تتخلى عن مبارك، لكي تلتفَّ على الشارع الثائر، الذي يحب الإسلام وينادي به، مع إبقائها على النظام وأسسه وفلوله وإعلامه. فأمريكا أبقت على النظام الفاسد، والوسط السياسي الفاسد لمكرٍ مكرته، ثم عملت على تضليل الناس في مصر، مرةً أخرى، حين صورت لهم أن قيادات الجيش المصري قد احتضنت الثورة والثوار، بينما كانت أمريكا تدّخرُ الجيش، ممثلاً بقيادته، لمهماتٍ لاحقة.

3. أشرفت قيادات الجيش المصري، على ترتيب البيت الداخلي بعد مبارك، فقبلت قياداته أن يدخل الإخوان، وبشكلٍ مباشر في منظومة النظام الديمقراطي، بعد أن رأت أن الناس يريدون الإسلام ويطالبون به. وكان هدف قيادات الجيش ومن ورائهم أمريكا، من إشراك الإخوان في التغيير المزعوم الجديد في مصر هو منع التغيير الحقيقي، وإسكات الجماهير. وكانت أمريكا تدرك أن مآل حكم الإسلاميين الذين استبعدوا شريعة الله ورضوا بالنظام الوضعي، إلى فشلٍ عاجلاً أم آجلاً، مما سيجعل الناس ينفضّون عن الإسلام وحملة دعوته، إذ سيظهر لهم عجز الإسلاميين في إدارة الدولة وتسيير دفة الحكم. وللأسف دخل الإخوان في هذا الشّرَك بمحض إرادتهم، وقبلوا أن يتقاسموا تركة النظام السابق، مع رموز الحرس القديم لنظام مبارك، والأحزاب العلمانية، والجيش المرتبط بأمريكا، وهذا خطأٌ في النهج والطريقة والعمل، ما جعلهم يدفعون الثمن لاحقاً.

4. في إطار هذا الزواج غير الشرعي بين القوى السياسية العلمانية، والقوى ذات التوجه الإسلامي، بقيادة الإخوان، في مؤسسات الحكم والتشريع والقضاء...، حرص الإخوان على إظهار مرونة عالية في قبول ما ليس بإسلامي، انطلاقا من فكرة التدرج التي يؤمنون بها ولم يُنَزِّل الله بها من سلطان، وحتى يرضوا شركاءهم في الحكم، ويظهروا تسامح الإسلام واعتداله! ولكي لا يحمل الغرب فكرةً سيئةً عن الإسلاميين المعتدلين، ولا ينقلب عليهم! وهكذا لم يتغير أي شيء، حيث بقي دستور مصر الوضعي العلماني وصدر في نسخةٍ منقحةٍ ومعدلةٍ من دستورِ 71 بمباركة الإسلاميين أنفسهم، بل واعتبروه قد خرج من بين رفث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين! وبقي قضاء مصر في يد قضاةٍ علمانيين، يدين معظمهم بالولاء للنظام القديم وفلوله، وظل التعليم في مصر سائرا على النهج نفسه الذي أسس له الاستعمار الإنجليزي، وظل إعلام مصر خاضعاً لرجال أعمالٍ فاسدين يحلمون بالعودة للنظام القديم، واتفاقيات مصر السياسية والاقتصادية، حتى مع أعداء المسلمين يهود، ظلت محترمةً ومصونةً بل ومفعّلةً بشكلٍ أكبر. وأصبح المشهد السياسي في مصر، مشهداً مؤلماً، يراوح بين: مسجدٍ وخمارة، ملهىً ليليٍّ ودارِ تحفيظِ قرآنٍ، فنادق مختلطةٍ تباع فيها الخمور وتشترى، وفنادق أخرى تمنعُ الاختلاط والخمور، إعلامٍ يبث الرذيلة ليل نهار، وإعلامٍ يتحدث عن الوضوء والأخلاق، رئيسٍ ملتحٍ، وأفراد شرطةٍ ممنوعين من إعفاء لحاهم باسم القانونِ العلماني، وبرامج إعلاميةٍ تستهزئ بالإسلام وبالرئيس الإخواني وبالمشايخ،... إنه مشهدٌ لدولة الأعاجيب! أكان هذا هو التغيير المنشود في مصر الكنانة؟! هل كان مبارك ليقبل أن يستهزئ أحدٌ به وبنظامه العلماني؟! هل كان مبارك يحرص على أن يستضيف المشايخ وعلماء المسلمين، ويقول لهم "هاكم الميدان فانطلقوا"، كما قال مرسي لأهل الغناء والممثلين في بداية حكمه، والذين عبروا عن شماتتهم به، وعن فرحتهم الغامرة بعزله؟! باختصار: لم تتغير الحال في مصر، رُغمَ كلِ الشعارات الإسلامية البراقة التي رفعت حينها: فالنظام الجمهوري ظل على حاله، والدستور ظل علمانياً بامتياز، والاقتصاد الربوي المرتهن لقروض الغرب وهيمنته ظل على حاله، وهيمنة أمريكا العسكرية، وتمويلها المالي للنظام التابع ظل على حاله، والعلاقات الدولية ظلت على حالها، والاتفاقيات الاقتصادية والسياسية مع يهود ظلت على حالها، والغاز الطبيعي ليهود ظل يتدفق... ماذا تغير؟ لم يتغير شيء؛ وصل الإسلاميون إلى الحكم، ولم يصل الإسلام.

5. بوصول محمد مرسي للحكم، أصبح هناك فريقان يتشاركان في هذا الحكم المشوّه: الأول فريق علماني يحارب الإسلام ويتآمر عليه، مكونٌ من القيادات السياسية الفاسدة، التي بقيت بعد زوال مبارك، وأحزابها العلمانية، وقيادات الجيش المرتبطة بأمريكا. وهؤلاء لا يطيقون رؤية الإسلام في الحكم ويكرهون رئيسهم محمد مرسي وجماعته، وقد بيتوا لهم كل شر، وجهدوا لكي يجعلوا الإسلام السياسي يبدو من خلال مرسي وجماعته، غير قادرٍ على إدارة الدولة، وعاجزاً في السياسة، ورجعياً في الأفكار والنظرة، وفاشياً وإقصائياً في التعامل مع خصومه، فتآمروا عليهم في كل شيء، وفي كل مفصلٍ من مفاصل العمل السياسي، وتربصوا بهم في كل شأنٍ سياسي: في الحكم، والقضاء، والتشريع... وسخروا منهم ومن رئيسهم، وشككوا بأهليتهم في كل محفلٍ وخصوصاً في الإعلام، وأشاعوا في البلدِ حالةً من النفور من الإسلام، ومن الحركات الإسلامية! وهكذا قاد هذا الفريق عملاً ممنهجاً، تحت عين السفارات الغربية وبمباركتها، ضد كل ما هو إسلام، طعناً وتشويهاً وسبّاً وتعريضاً. هذا كله يحصل والرئيس يحافظ على حبال الود، وفي الوقت الذي يعلن فيه السيسي عن نيته الحقيقية بعد المهلة الشهيرة، كان الرئيس يمدح السيسي وزبانيته عندما وصفهم بأنهم رجال مثل الذهب، كما كان يتفانى في خدمة (المشروعِ الوطنيِّ العظيم)، ويفتخر أنه لم يقصف قلماً ولم يُغلق قناةً، ويا ليته فعل!

أما الفريق الثاني فهو فريق محمد مرسي وجماعته، الذي قام بأولى الخطايا عندما قبل بمشاركة العلمانيين، وبعض فلول النظامِ السابق في الحكم، ليستلم الحكم منقوصا، فدخل اللعبة السياسية مكبلاً عاجزاً عن أي تغييرٍ، فقد أقسم منذ أولِ يوم على القبول بكل مفردات الدولة العلمانية، التي يقاتل في سبيل بقائها فلول النظام السابق، وأعوانُهم. وعلى هذا الأساس، وخلال السنة التي حكم فيها، قاد محمد مرسي سياسة لم تقدم نهجاً بديلاً للشعب المصري، ولم تأخذ بيده إلى أي ارتفاع، فلم يطبق شيئاً من إسلام، ولا اختلف عن سلفه في أية سياسةٍ تذكر، وكان محمد مرسي يعمل في حقل ألغامٍ، وفخاخٍ، ينصبها له شركاؤه في الحكم، وهو يعلم ولا يحرك ساكنا، وإذا تحرك أظهر ترددا وتلعثما يفضح عدم قدرته على الحكم والإدارة. لقد كانت المشكلةُ تكمن في نهج محمد مرسي وجماعته: فهم لا يعرفون سبيلاً آخر للعملِ غير المشاركة السياسية مع أعدائهم، أعداء الإسلام!

6. وبعد سنة من حكم محمد مرسي (الديمقراطي)، وبعد سنة من التشويه والتوريط والإفشال، أخذ الجيش، صاحب القرار الفعلي، القرار بالانقلاب على الشرعيةِ الديمقراطيةِ المزعومة، وأزاح مرسي، واتهمه وجماعته بالحكم الفاشي، واختطاف البلد، وأنهم يريدون حكماً دينياً! وأنهم روعوا الجماهير في مصر، وأساءوا لمؤسساتِ البلد الوطنية والدينية! وأنهم فشلوا في أن يكونوا ديمقراطيين!! وها هي قيادات الإخوان، التي كانت قبل مدة في الحكم، تؤخذ إلى السجن، وتُحاكم من شركائها، لأنها كما يدعي خصومها تحرض على العنف والقتل والإرهاب! فيما الديمقراطية الغربية، التي طالما تطلع إليها الدكتور مرسي، تطعنه وتنقلب عليه وعلى جماعته المعتدلة، ولا تقف لتدافع عن شرعيته الديمقراطية!

وهكذا أطاح الجيش بمحمد مرسي برضاً وتنسيقٍ أمريكي لعدم قدرته على إحداث استقرارٍ تريده أمريكا، لتتم إعادة تدوير نظام مبارك مرة ثانية، فدعا الإخوان أنصارهم للخروج إلى الشارع للاحتجاج، والمناداة بعودة مرسي إلى موقعه السابق رئيساً للبلاد، وقام الجيش يقتل منهم، ويلاحقهم، ويلاحق قياداتهم، ويصادر أموالهم عقاباً لهم على تحديه، فتم احتجاز مرسي ثم محاكمته بتهم هزلية، ثم تم التخلص منه وقتله بشكل بطيء ممنهج، ليتخلص النظام من شرعيته الديمقراطية نهائيا.

بهذا استطاعت أمريكا أن تضع حدا للثورة في مصر وأن تحرفها عن مسارها وغايتها، المتمثلة في إسقاط النظام. فتم لها ما أرادته من إعادة تدوير نفاياتها لتنتج نظاما أكثر قسوة وبشاعة وخيانة وعمالة من سابقه، ومن ثم سلمت زمام الأمور في مصر للجيش بقيادة وزير دفاع مرسي.

الجزء الأول: اضغط هنــا

الجزء الثاني: اضغط هنــا

الجزء الرابع: اضغط هنــا

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
حامد عبد العزيز