الذرّية الصالحة



لو سَألْنا عن الذُّرِّيَّةِ.. رَجُلاً رَزَقَه الله أولاداً، وسَألْنا آخرَ عَقِيماً.. لقال كلاهما: إنَّ الأبناءَ رَيْحانةُ القَلبِ وجَمالُ الكَونِ وزينةُ الحياةِ وعنوانُ السعادة والهناء!

فالولَدُ الصالِحُ مِنَّةٌ عظيمةٌ ونِعْمةٌ جَسِيمةٌ، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ابنُ آدم انقَطعَ عَمَلُه إلا مِن ثلاثٍ: صَدقةٍ جارية، أو عِلمٍ يُنتَفَعُ به، أو وَلَدٍ صالِحٍ يدعو له).(1) فأبناؤنا زادُنا الذي لا يفنَى، وكَنْزُنا الذي يبقَى بعد مَوتِنا؛ ولله دَرُّ من قال:

والمرءُ يُحْيِي مَجْدَه أبناؤه ويَمُوت آخَرُ وهو في الأحياء!(2)

وتأمَّلْ مَحاسِنَ البيانِ ومَكامِنَ الجمالِ في قولِ الله تعالى: (المالُ والبَنُون زِينةُ الحياةِ الدُّنيا).(3) قال القرطبي رحمه الله: "وإنَّما كان المالُ والبنون زينةَ الحياة الدنيا؛ لأنَّ في المالِ جَمالا ونَفعاً، وفي البَنِين قُوةً ودَفعاً؛ فصارا زِينةَ الحياة الدنيا".(4)

وقد كان الولدُ دعوةَ إبراهيم عليه السلام حين قال: (رَبِّ هَبْ لي مِن الصالِحِين)؛ قال تعالى: (فبَشَّرْناه بِغُلامٍ حَلِيم).(5) ورجاءَ زكريا عليه السلام (إذْ نادى ربَّه نِداءً خَفيّاً قال ربِّ إني وَهَنَ العَظمُ منِّي واشتَعلَ الرأسُ شَيْباً ولم أكن بدعائك ربِّ شَقِياً وإنِّي خِفتُ الموالِيَ مِن ورائي وكانت امرأتي عاقِراً فهَبْ لي مِن لَدُنْك وَلِيّاً يَرِثُنِي ويَرِثُ مِن آلِ يعقوبَ واجعَلْه ربِّ رَضِياً".(6)

وكانت الذُّرِّيةُ الطيِّبةُ بُشرَى للصالِحِين مِن عِبادِ الله، كما قال عزَّ وجلَّ عن إبراهيم عليه السلام: (وبشَّرْناه بإسحاقَ نبياً مِن الصالحين وبارَكْنا عليه وعلى إسحاق ومِن ذُرِّيتِهما مُحْسِنٌ وظالِمٌ لِنفسِه مُبِين).( 7) وقال عن زكريا عليه السلام: (فنادته الملائكةُ وهو قائمٌ يُصلِّي في المحرابِ أنَّ الله يُبَشِّرُك بيحيى مُصَدِّقاً بكلمةٍ من الله وسَيِّداً وحَصُوراً ونبياً من الصالحين).(8) وقال عن مريم عليها السلام: (إذ قالت الملائكة يا مَريَمُ إنَّ الله يُبَشِّرُكِ بكلمةٍ منه اسمه المسيحُ عيسى بنُ مريم وَجِيهاً في الدنيا والآخرةِ ومِن المقَرَّبِين).(9)

فالأبناءُ نِعْمةٌ بالغةٌ ومِنَّةٌ سابغةٌ لِمَن وَفَّقَه الله إلى التربية الصالحة، كما قيل:

وإنَّ مَن أدَّبْتَه في الصِّبا كالعُودِ يَقِي الماءَ في غَرْسِه

حتى تراه مُورِقًا ناضِراً بعد الذي أبصَرْتَ من يُبْسِه (10)

ولله درُّ مَن قال:

حَرِّضْ بَنِيك على الآدابِ في الصِّغَرِ كيما تَقَرَّ بهم عَيناك في الكِبَرِ!

وإنما مَثَلُ الآدابِ تَجمَعُها في عُنفُوانِ الصِّبا كالنَّقشِ في الحجر!

ولكنَّ الأولادَ فِتنةٌ لِمَن لم يَتَّقِ الله فيهم؛ فأهْمَلَ تَربِيتَهم ولم يُعَلِّمْهم مَكارِمَ الأخلاق، أو انشَغلَ بهم عن واجِباتِه الشرعية، كما قال تعالى: (واعْلَمُوا أنَّما أموالُكم وأولادُكم فِتْنةٌ)، قال ابنُ الجوزي رحمه الله: "أي بَلاءٌ وشُغلٌ عن الآخرة؛ فالمالُ والأولادُ يُوقِعان في العَظائم إلا مَن عَصمَه الله... وقال الفراء: قال أهل المعاني: إنما دخل (مِن) في قولِه تعالى: (إنَّ مِن أزواجِكم)؛ لأنه ليس كلُّ الأزواجِ والأولادِ أعداءً، ولم يذكر (مِن) في قولِه تعالى: (إنَّما أموالُكم وأولادُكم فِتْنة)؛ لأنها لا تخلو مِن الفِتنةِ واشتِغالِ القلبِ بها".(11)

وقد قال بعضُ الظرفاء:

قالوا تزوَّجْ فلا دنيا بلا امرأةٍ وراقِب الله واقرأْ آيَ ياسينا

لما تزوجتُ طابَ العيشُ لي وحَلا وصِرتُ بعد وُجودِ الخيرِ مِسكينا

جاء البنون وجاء الهمُّ يتبعُهم ثم التفَتُّ فلا دُنيا ولا دينا!

هذا الزمانُ الذي قال الرسولُ لنا خفوا الرحال فقد فاز المخِفُّونا!(12)

وقال ابن كثير رحمه الله: "وقوله (المال والبنون زينة الحياة الدنيا)(13) كقوله: (زُيِّنَ لِلناسِ حُبُّ الشهواتِ من النساءِ والبنين والقناطيرِ المقنطَرةِ من الذهبِ) الآية،(14) وقال تعالى: (إنَّما أموالُكم وأولادُكم فِتنةٌ والله عنده أجر عظيم): أي الإقبالُ عليه والتفرُّغُ لِعبادتِه خيرٌ لكم مِن اشتِغالِكم بهم والجمعِ لهم والشفقةِ المفرِطةِ عليهم؛ ولهذا قال: (والباقياتُ الصالحاتُ خيرٌ عند ربِّك ثواباً وخيرٌ أملا)".(15)

وفي التنزيلِ آياتٌ من رحمةِ الآباءِ بالأبناءِ ووَصاياهم ومَواعِظِهم، كما قال عزَّ وجَلَّ: (ونادى نوحٌ ابنَه وكان في مَعزَلٍ يا بُنَي ارْكَبْ مَعَنا ولا تَكُنْ مع الكافِرين)،(16) (وإذْ قال لُقمانُ لابنِه وهو يَعِظُه يا بُنَيَّ لا تُشرِكْ بالله إنَّ الشِّركَ لَظُلمٌ عَظِيم).(17)

وأما مَن قصَّرَ في تربيةِ أبنائه؛ فإنَّ الله عزَّ وجَلَّ يُعاقِبُه بأن يُذِيقَه ثَمرةَ إهمالِه عُقوقَ وَلَدِه، حتى يشتكي ويقول:

فيا عجباً لِمَن رَبَّيْتُ طِفْلا ألَقِّمُه بأطْرافِ البَنانِ

أُعَلِّمُه الرِّمايةَ كلَّ يومٍ فلما اشتَدَّ ساعِدُه رَماني!

أُعَلِّمُه الفُتُوَّةَ كلَّ وقتٍ فلما طر شارِبُه جَفانِي!

وكم علَّمْتُه نَظمَ القوافي فلما قال قافيةً هَجاني!(18)

وهذا التقصِيرُ في التربيةِ هو الذي حَملَ بعضَ المتشائِمِين على كراهةِ النسلِ، حتى قال ابنُ سِنان الخفاجي:

ضَلَّ الذين رأوا في النَّسْلِ فائدةً ولو أصابُوا لما ربُّوا ولا حَضَنُوا!

وقال المتنبي:

هل الولدُ المحبوب إلا تِعِلَّةٌ وهل خلوةُ الحسناء إلا أذى البَعلِ!

وما الدهرُ أهلٌ أن يُؤمَّلَ عندَه حياةٌ وأن يُشتاقَ فيه إلى النَّسلِ!

وقال أبو العلاء المعري:

أرى ولدَ الفتى كلاًّ عليه لقد سعد الذي أمسى عقيماً!

أما شاهدتَ كلَّ أبي وَلِيدٍ يؤمُّ طريقَ حَتفٍ مُستقيماً

فإمَّا أنْ يُربِّيَه عَدُواً وإما أنْ يُخَلِّفَه يتيماًًًً!

وإنَّ ما نَراه في هذه الأيامِ.. مِن تَضْيِيعِ أمانةِ الأبناءِ والبناتِ، وإهْمالِ رِعايَتِهم وعَدَمِ العِنايةِ بهم؛ لا يَجعلُنا نَزهَدُ في الذُّريةِ، بل نحرصُ على القِيامِ بِواجِبِنا الدِّينِي في رِعايةِ أُسَرِنا وتربيةِ أبنائنا؛ ورَحِمَ الله شوقي؛ فقد أحسنَ تصويرَ إهمالِ كثيرٍ من الأُسَرِ بقولِه:

ليس اليتيمُ مَن انتهَى أبواه مِن همِّ الحياةِ وخلَّفاه ذليلاً!

فأصاب بالدنيا الحكيمة منهما وبِحُسنِ تربيةِ الزمانِ بديلاً!

إنَّ اليتيمَ هو الذي تَلْقَى له أُمًّا تَخَلَّتْ أو أباً مَشغُولا!



_______________

(1) رواه مسلم.

(2) البيت للشاعر عَدي بن الرقاع.

(3) الكهف 46.

(4) الجامع لأحكام القرآن 10/413.

(5) الصافات 100-101.

(6) مريم 3-6.

(7) الصافات 112-113.

(8) آل عمران 39.

(9) آل عمران 45.

(10) البيتان لصالح عبد القدوس.

(11) زاد المسير 8/285.

(12) كشف الخفاء للعجلوني 2/110. وقد حكم الألباني رحمه الله بأنه (ضعيف جدا) في ضعيف الترغيب والترهيب 2/163، حديث 1847 : روي عن أنس رضي الله عنه قال (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما وهو آخذ بيد أبي ذر فقال يا أبا ذر أعلمت أن بين أيدينا عقبة كؤودا لا يصعدها إلا المخفون...).

(13) الكهف 46.

(14) آل عمران 14.

(15) تفسير القرآن العظيم 3/86.

(16) هود 42.

(17) لقمان 13.

(18) الشعر للميداني.

منقول
#الحقيقة