ما زالت عجائب حكمة الله فيما يحوط به هذا الدين العظيم وكتابه الخالد وسنة نبيه ﷺ من حفظ، فكلما وهن عصر من عصوره وابتلي أهله بزنادقته وأدعيائه ومحرفيه ومبتدعته، فإذ بأمته أشد ما تكون التصاقا بدينها وأبلغ ما تكون دفاعا ومحاماة ونضالا وكفاحا من أجله بعد أن يمن الله عليها بأتقياء أنقياء هداية وطهراً.

وهو لعمرك حال هذه الأمة في يوم الناس هذا، وقد رمانا الغرب الكافر بكل أفاك كذاب أشر، وكل معتل زائغ العبارة منحرف الفكر، تسلطت سفاسف أفكار الغرب وبوائق فلسفته على عقله فمسخته.

ومن بلية هذا الزمان حركات "الإسلام المعتدل"، قوم معلمنون بلحى، مذهبهم في فهم الإسلام وما زعموه تجديدا، هو إقحامهم لبضاعة الغرب الفكرية على الفكر الإسلامي وهو منها براء، وامتهنوا حرفة الانتحال وباتوا ينتحلون التدين في فصل الدين عن الحياة والطاعة في المعصية، وفي عجزهم وضعف عقولهم وتشوههم الفكري بات الاحتيال والتلفيق الفقهي وجعل ما ليس بقاعدة قاعدة وانتحال قواعد الغرب الفكرية العلمانية وإلباسها لبوس الإسلام، بات ديدن القوم بل ودينهم. وأضحى جديد القوم هو ما أنتجه الغرب قديما وحديثا، فأعرضوا بذلك عن الحق وأقبلوا على الباطل وجعلوا أنوفهم في قفاهم!

وما كانوا فينا إلا وسائل وأدوات الغرب للتدمير والخراب والاستعمار، وما ألقيت هذه القنبلة فينا إلا من مدفع الغرب محشوة كفراً لتهدم في الأمة إيمانها ويقينها بحقيق حق إسلامها في تسيير حياة البشر. وما كانوا إلا حشوا لمدافع الغرب في حربه الحضارية الصليبية، هدفها ما أفصح به كبير مجرمي الغرب الهالك رامسفيلد في قوله: "نريد لشعوب الشرق الأوسط أن يكون إسلامها كإسلام الشعوب المسلمة في شرق أوروبا"، ما عبروا عنه كناية بسياسة نزع الشوك من السمك، عبْر اعتماد فكرة تشويه المعتقد بعد فشل الغرب في تغييره، حتى يصبح مسخا منزوع الدسم، يصبح معه الدين مجرد طقوس ذات طابع فلكلوري، لا يمس سياسة أو قوانين دولة أو أنظمة مجتمع أو مفاهيم حضارية.

إلا أن حقيقة هذا الدين في قهره لمن حاده وأعرض عنه، هي حقيقة كل زمن لم يزل كل عصر يأتي الناس بدليلها، وذلك الذي كان ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾!

ومن هنا يبدأ حديثنا عن سؤال مركزي يجد حيثيات مسائله في ما جرى لحركات وجماعات "الإسلام المعتدل" في تونس ومن قبل في مصر، وهو: ما الذي يدفع الغرب للانقلاب على حركات وجماعات "الإسلام المعتدل"، عِلما أنها جماعات تم تعديلها في مختبرات ومعامل الغرب الفكرية، حتى أضحى ظاهرها طقوسا إسلامية وباطنها علمانية مقيتة؟

فضلا أن هذه الجماعات في تدرّكها أذعنت وخنعت للغرب الخنوع التام في تبنيها فضلا عن فلسفة الغرب في فصل الدين عن الحياة، وذلك ما عبرت عنه في انفصامها النكد بين الدعوي والسياسي، بل تبنت كذلك تحريفات الغرب لمفاهيم الإسلام ومعايير "الإسلام المعتدل" الذي يرضاه الغرب ويرتضيه منها، وقد كشفت عن تلك المعايير مؤسسة راند الأمريكية في تقريرها المعنون "بناء شبكات إسلامية معتدلة" لعام 2007 والذي استغرق إعداده ثلاث سنوات لوضع استراتيجيات الغرب المتبعة في حربه الحضارية مع الإسلام وسعيه لتحريف مفاهيمه بأدوات داخلية محلية، طبقا لما نص عليه تقرير سابق لمؤسسة راند لعام 2004 تحت عنوان "الإسلام المدني الديمقراطي... شركاء وموارد واستراتيجيات"، تلك المعايير هي: القبول بفكرة الديمقراطية، القبول بالمصادر الوضعية في تشريع القوانين، رفض تطبيق الشريعة، نبذ الإرهاب والعنف، الدعوة لاستخراج النصوص الشرعية من التراث الإسلامي لدعم هذا الفكر (الإسلام المعتدل)، احترام حقوق النساء الدولية والأقليات الدينية...، وفي تبنيها لهرطقات الغرب طفح إلى السطح ذلك الوسم المقيت التي وصفت هكذا جماعات به نفسها وعبر عنه غنوشي النهضة "الإسلامي الديمقراطي"!

ولفهم انقلاب الغرب على صنيعه، لا بد من فهم السبب وراء إيجاد هكذا جماعات تحمل هذا الكم من التشوه المعرفي والانحراف الفكري، فالسبب هو ورطة الغرب مع الإسلام كمبدأ عابر للزمان والمكان متجاوز كل أنساق البشر المعرفية، فمعضلة الغرب مستعصية مع الإسلام، وهي في فشله الحضاري في إعادة صياغة البلاد الإسلامية حسب رؤيته المادية العلمانية، بالرغم من تمكنه من كل أدوات الفعل والممارسة العملية على أرض الواقع، فأنظمة الحياة في البلاد الإسلامية أنظمته، والدويلات القائمة فيها صنيعته، وبعد قرن من الزمن ها هي البلاد الإسلامية تغلي غليان أمة واحدة تجمعها العقيدة الإسلامية، وطاقة غليانها تستمدها من إسلامها العظيم ولسان حالها ومادة حركتها هو التمرد على الغرب وأنظمته وعملائه وأدواته.

وفي ورطته وإفلاسه عدّل الغرب هكذا حركات وجماعات لتكون معاول هدم من داخل المنظومة الإسلامية حرفا للمسار وتثبيتا للاستعمار، ولكن ورطته استفحلت في نبذ الأمة لأنظمته ورؤاه وتطلعها لاستئناف حياتها الإسلامية، فكان الربيع العربي حالة نموذجية تبرز حجم المأزق الغربي في تمرد الناس على منظومته وعملائه، فدفع بهكذا حركات لعلها تكون مخرجا له من مأزقه.

ولكن ورطة الغرب استفحلت، فالذي استجد مع هذه الحركات والجماعات وهي في الحكم، هي الحالة الفكرية المصاحبة والمناخ السياسي المرافق، والتي جعلت النقاش السياسي يدور حول الإسلام كمبدأ وليس ككهنوت، وحول كل أنظمته عن الحياة وعلى رأسها الحكم وليس فقط بعضاً من عباداته، وهنا تعمقت ورطة الغرب وسقطت في يده، فمعول هَدْمهِ هَدَمَ كهنوته وأعاد النقاش السياسي للحالة الفكرية المبدئية الأصيلة للإسلام، ذاك الذي عمل الغرب على طمسه خلال قرن من الزمن.

من هنا كان الانقلاب على حركات وجماعات "الإسلام المعتدل" ردة فعل غربية على الحالة الفكرية السياسية المصاحبة والمناخ السائد المشحون بالإسلام تطلعا وبديلا، والمحتقن ضد الغرب الكافر المستعمر وسياساته وأنظمته وعملائه، وليس ضدا لجماعات "الإسلام المعتدل" صنيعته، التي خنعت وذلت صاغرة له.

فقد تخلص الغرب من الأداة لنتائجها العكسية وآثارها الجانبية غير المرغوب فيها رغما عن الغرب وأدوات "الإسلام المعتدل" صنيعته، عطفا على ذلك عطب الأداة وعدم فاعليتها في إنجاز المهمة، فقد فشلت في احتواء الشارع وتحجيم حراكه وحرف مساره، وأخفقت في امتصاص حَنَق الناس ونقمتهم على المنظومة البائسة وكتم النفس الثوري، وانكشف ظهر الغرب المستعمر، بل باتت الأداة نفسها محل امتعاض وانتقاد، وأضحت مصدر احتقان وفتيل ثورة.

أمام هذا الإفلاس الشنيع جهد الغرب في محاولة تحويل هزيمته إلى شيء من مكسب، عبر ذلك الادعاء الباطل ونعيق أبواقه عن فشل الإسلام السياسي، والذي ما أوجد الغرب أداة "الإسلام المعتدل" إلا لمنع ظهوره وبزوغ فجره، وما كان ذلك الادعاء الباطل إلا من تلك السياسة الغربية البائسة في تحريف الوقائع وتزييف الحقائق وتضليل الرأي العام، تلك السياسة التي امتهنها الغرب في إفلاسه حرفة في حربه الحضارية الصليبية ضد الإسلام، سعيا منه لتحويل هزائمه الحضارية إلى شيء من مكسب وأنى له ذلك فالإسلام يعلو ولا يعلى عليه.

تبقى هذه القراءة قراءة لأسباب الأرض ومفاعيل قوى البشر، إلا أن حقيقة الإسلام الدامغة أن هذا الدين دين الله، وكتب له في الأزل إخضاع الدنيا وحكم العالم عدلا لا طغيانا، وما الغرب إلا ساعة طغيان ذاهبة في زمانه، كتب عليه الفناء وللإسلام البقاء.

ومن مفاعيل السماء بعباد الله المستضعفين متى استقاموا على الطريقة، كيد ومكر القوي المتين بأعدائهم. وما كان جواب السؤال أعلاه إلا في قول الحكيم العليم: ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾.

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
مناجي محمد