بسم الله الرحمن الرحيم

هل بقي للمصريين إلا رغيف العيش؟



- اتق الله! ألم تسمع بالحديث؟

- أي حديث؟

- عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ». [صحيح البخاري: 3071].

- ولكن تلك هرة وليست شعباً.

لنبدأ القصة من أولها...

أصل الدعم ومن ابتدعه؟

نظام الدعم مستوحى من تجارب طورها على نطاق أوسع أرباب العمل الفرنسيون والبلجيكيون خلال عشرينات وثلاثينات القرن الماضي. تسمح صناديق التعويضات (كما كانت تسمى وقتها) بمنح المزايا الاجتماعية بطريقة مستهدفة بدلاً من زيادة الأجور وتعزيز ظهور سياسة اجتماعية لأصحاب العمل مستقلة عن الدولة والنقابات. هذه الرغبة في الاستقلال موجودة أيضاً في الأوساط النصرانية الاجتماعية التي تعارض تدخل الدولة في سياسة الأسرة. هذا المزيج من عمل صاحب العمل والتقاليد النصرانية الاجتماعية تتغذى أيضاً من المثل العليا للشركات (الرؤية العضوية للمجتمع ونقد الديمقراطية الليبرالية)، أي إنها كانت في الأصل منبوذة من الرأسمالية الليبرالية التي تبنتها الدول الغربية وكانت تطبقها بحذافيرها، وبعد الأزمات التي تعرض لها المبدأ الرأسمالي وفي محاولة للقطع أمام المد الشيوعي والاشتراكي، تم اعتماد تلك الترقيعات المخالفة لأساس المبدأ الرأسمالي.

كيف ومتى حصل الدعم في مصر؟

تاريخ الدعم في 100 عام:

وفقاً لدراسة أجراها المركز المصري للدراسات السياسية والاقتصادية، فإن الدعم بشكله الحالي لم يُعرف إلا بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، حين أرادت مصر أن تتلافى الآثار السلبية الناجمة عن الحرب، فقررت تأسيس وزارة للشؤون الاجتماعية التي تحولت تدريجاً، لتصبح وزارة التموين والتجارة الداخلية في ما بعد.

هنا يجدر بنا أن نضع الإصبع على سبب الداء الخارج عن مصلحة المصريين حيث لم يكن لهم في الحرب العالمية الثانية ناقة ولا جملا، بل تحول الحل المؤقت قبل الحرب العالمية الثانية إلى حل دائم، فقد أكدت الدراسة أن ما كان يتم قبل الحرب العالمية الثانية، على فترات، لم يرتقِ إلى مسمى الدعم بمعناه المعروف. تصدّى الملك فاروق، عام 1941، لمشكلة دعم أبناء الطبقات الفقيرة، وخصّص 2000 جنيه لحل هذه الأزمة، وكان هذا المخصّص أولى حلقات الدعم في مصر لكن بشكل غير مباشر.

وفي إطار بيع الوهم لجموع العرب بشعار القومية العربية لإلهائهم عن مفقودهم الأساس وهو الدولة الجامعة للأمة الإسلامية أصبح الدعم دعاية لعبد الناصر؛ فقد أوضحت الدراسة أيضاً أن الحكومة المصرية توسعت، في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، في تقديم الدعم بطرق متعددة، وكان في صدارتها ما عُرف آنذاك بـ"الإصلاح الزراعي"، علاوة على توفير خدمات مجتمعية تتضمّن الصحة والتعليم، وإصدار البطاقات التموينية للمرة الأولى لعدد محدود من السلع، بهدف توفير السلع الأساسية للناس، كإجراء لمواجهة النقص فيها.

وذكرت الدراسة أن قيمة مخصّصات الدعم ارتفعت في عام 1970 نحو 20 مليون جنيه (1.2 مليون دولار أمريكي)، بعد التوسّع في عدد السلع المدعومة، ليصل إلى 18 سلعة أساسية، وتم ضمّ أصناف جديدة مثل: الفول، والعدس، والدجاج، واللحوم، والأسماك المجمّدة، وللمرة الأولى دعمت الحكومة المصرية الكهرباء وخدمات النقل الداخلي، والبنزين، علاوة على أن الدعم خلال حقبة السبعينات، شمل جميع المصريين من دون تحديد فئة بعينها من المستحقين.

والمحصلة أن الدعم أصبح رشوة تسكت الناس عن كل السياسات الخاطئة والهزائم المخزية والظلم الممنهج لنظام العساكر في مصر.

ماذا ترتب على منظومة الدعم؟

اصطدمت الحكومة المصرية للمرة الأولى مع الناس بسبب الدعم، في عام 1977، حين قرّر الرئيس الراحل أنور السادات، الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على تنفيذ حزمة إصلاحات اقتصادية، بدأت عام 1976، لتخفيف التداعيات السلبية لحرب تشرين الأول/أكتوبر 1973.

وبدأ الصدام في كانون الثاني/يناير 1977، عقب إعلان الحكومة رفع أسعار بعض السلع المدعومة مثل: السكر، والدقيق، والشاي، والرز، وهو ما رفضته شريحة كبيرة من الناس وخرجت في احتجاجات واسعة، سرعان ما تحولت إلى أعمال عنف، عُرفت إعلامياً بأحداث كانون الثاني/يناير 1977، وأطلق عليها مسميات أخرى منها ثورة الجياع. وبلغ عنف هذه الاحتجاجات حداً أجبر القيادة المصرية على التراجع عن قرارات رفع الدعم.

كان ذلك التراجع بمثابة نصر للشعب في ظاهره ولكنه في الوقت نفسه كان مؤشرا لنجاح الخطة في إنزال سقف مطالبات الشعب إلى لقمة العيش بعد أن كانت هموم الناس حول قضاياهم المصيرية مثل العداء للكيان المحتل والاستعداد لحربه ودفع الغالي والنفيس لتمويل المجهود الحربي أيام حرب الاستنزاف.

وتوج السادات استثماره لذلك السقف المنخفض للمطالبات الشعبية، بزيارته الخيانية لكيان يهود في التاسع عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 1977 أي بعد 10 أشهر من أحداث كانون الثاني/يناير المرتبطة بالدعم.

وها هو السيسي يعيد الكرة ويمتحن الشعب باللعب على حبل الدعم لعله يشغله مرة أخرى عن قضاياه المصيرية والتي ارتفع سقفها بعد ثورة يناير فعادت شعارات من مثل (خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود)، مما اضطره إلى ترميم جدار الخوف بالتنكيل والقتل والحبس لكل معارض... وبما أن أزمة سد النهضة لن يفلح فيها الاتهام بعدم الوطنية أو الانتماء "للإرهاب" المزعوم، فلا بد من الاستثمار في الدعم، بالتخويف من فقدانه.

أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ مذبحة الأوقاف:

نعم هي مذبحة بأتم معنى الكلمة، فما حدث هو أن نظام الوقف الذي بلغ عمره أكثر من أربعة عشر قرناً، قد انهار على يد ثورة يوليو في ثمانية عشر عاماً فقط، وتمزقت أصوله المادية، وتشوهت فكرته الخيرية تحت الإجراءات التي اتخذتها حكومات الثورة منذ تموز/يوليو سنة 1952م حتى نهاية الستينات.

ومن أهم المبررات الرسمية التي سيقت لتبرير قرار لجنة الأوقاف بتغيير مصارف جميع الأوقاف واختزالها في مصرفَيْن فقط اتَّسَمَا بالعمومية الشديدة، والغموض الأشد: "أن الدولة بصدد تعديل القوانين بما يساير المبادئ الاشتراكية وما يحقق أهداف الخطة الموضوعة للتحول الاشتراكي.. وأن وزارة الأوقاف هي وزارة الدعوة؛ ولا بد لها أن تنقل دعوتها لتكون تحت تصرف كل مواطن عربي في جميع الأقطار دون استثناء" (بالعمومية والغموض انفتح باب الفساد المؤسسي ليتغلغل كيفما شاء في إدارة الأوقاف منذ ذلك الحين)، وبمثل هذه التبريرات لم يعد "شرط الواقف كنص الشارع" بل أصبح "شرط الواقف كرغبة السلطة الحاكمة"، وافقت هذه الرغبة الإرادة الأصلية لمؤسسي الأوقاف أم خالفتها.

فبموجب القوانين والقرارات الجمهورية والوزارية التي صدرت خلال الفترة من سنة 1959م إلى سنة 1969م بشأن إعادة تنظيم وزارة الأوقاف، أصبحت هذه الوزارة جزءاً من البيروقراطية الحكومية. وانتزعت السلطة منها ما كان لديها من مدارس ومستشفيات ومؤسسات خيرية أخرى وسلمتها إلى وزارات: التعليم، والصحة، والشئون الاجتماعية، على التوالي. وسلَّمت أيضاً جميع الأعيان الموقوفة على الخــيرات للإصلاح الزراعي والمجالس المحلية.

ولم تنته الستينات إلا ووزارة الأوقاف بلا أوقاف، ومع ذلك بقيت قائمة، بعد أن انتفى مبرر وجودها المتمثل في النظارة على الأوقاف وصرف ريعها حسب شروط الواقفين. وكان السؤال المنطقي الذي لم يسأله أحد آنذاك هو: بما أنه لم يعد لدى وزارة الأوقاف أي أوقاف فلماذا تستمر إذن؟

والذي حدث هو أنها استمرت، بل واتسعت اختصاصاتها لتحكم قبضتها شيئاً فشيئاً على قطاع الدعوة والمساجد، بعد أن كانت لا صلة لها البتة لا بالدعوة ولا بالمساجد؛ فيما عدا قيامها بإدارة بعض الأوقاف المشروط صرف ريعها على المساجد "السلطانية" الموروثة من العهود السابقة وهي قليلة العدد مقارنة بجملة مساجد مصر على مر العصور.

فعددوا معي عدد العصافير التي ضربها العسكر وثورته المزعومة المدعومة من الغرب الكافر بحجر واحد!

وهل يوجد حل؟

مهما سما العقل البشري فهو عاجز عن الإحاطة بما يقتضيه العدل المطلق، فالحاكمية والتشريع حق لله تعالى بوصفه ربا، إلها، خالقا، ملكا، مالكا، مدبرا، حكيما، عليما، لطيفاً، خبيرا. أما الحلول الترقيعية التي وضعها الغرب فلم تزد الطين إلا بلة. فالخوف من انتفاضة الفقراء عالجوها بالدعم ولما أثقل الدعم كاهل الاقتصاد وزاد من نسب التضخم، أصبح الحل في تخفيضه بل وإجبار الدول النامية على التخلي عنه كشرط للحصول على القروض. وهكذا هي الدائرة المفرغة التي نتج عنها ازدياد الهوة بين الأغنياء والفقراء.

إذا لا حل جذرياً للفقر إلا في ظل النظام الإسلامي وتطبيقه كاملا في دولته الخلافة الراشدة القائمة قريبا بإذن الله.

وأكتفي هنا بنقل هذه المادة من مشروع دستور دولة الخلافة الذي وضعه حزب التحرير والأسباب الموجبة لتلك المادة:

المادة 124: "المشكلة الاقتصادية هي توزيع الأموال والمنافع على جميع أفراد الرعية، وتمكينهم من الانتفاع بها بتمكينهم من حيازتها ومن السعي لها."

بيّنت هذه المادة أن المشكلة الاقتصادية ذات شقين: أحدهما فقر الأفراد، أي ضمان أن تصل ثروة البلاد إلى كل فرد من أفراد الرعية بحيث لا يحرم منها أي فرد، والثاني تمكين كل فرد في الرعية من حيازة الثروة والانتفاع بها. أما الشق الأول فدليله الآيات والأحاديث التي جاءت بشأن الفقير، وبشأن المسكين، وبشأن ابن السبيل. وهذه الأدلة جاءت من الكثرة والتنويع بحيث تلفت النظر إلى أهمية هذه المشكلة، أما الآيات فقال تعالى: ﴿وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ [الحج] وقال: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ * لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾ [البقرة: 272-273] وقال: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [التوبة: 60] وقال: ﴿مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [الحشر: 7] إلى أن يقول: ﴿لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ﴾ [الحشر: 8] وقال: ﴿إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ﴾ [البقرة: 271] وقال: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة: 184] وقال: ﴿فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً﴾ [المجادلة: 4] وقال: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾ [الإنسان] وقال: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ﴾ [البلد] وقال: ﴿قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [البقرة: 215] وقال: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ﴾ [البقرة: 177] وقال: ﴿أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ﴾ [المائدة: 95] وقال: ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾ [المائدة: 89] وقال: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [الذاريات] وقال: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [المعارج] وأما الأحاديث فقد قال رسول الله ﷺ: «وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمْ امْرُؤٌ جَائِعٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى» أخرجه أحمد عن ابن عمر وصححه أحمد شاكر، وقال ﷺ فيما يرويه عن ربه: «مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِعٌ وَهُوَ يَعْلَمُ» أخرجه البزار عن أنس بإسناد حسنه الهيثمي والمنذري. فهذه الآيات والأحاديث، وجميع الآيات التي وردت بالإنفاق، وأحكام الصدقات، وأحكام الزكاة، وتكرار الحث على إعالة الفقراء والمساكين وابن السبيل والسائلين أي من تحققت فيهم صفة الفقر، كل ذلك يدل دلالة واضحة على أن المشكلة الاقتصادية هي فقر الأفراد، أي هي سوء توزيع الثروة على الأفراد بحيث ينتج عن هذا التوزيع فقر الأفراد، فتكون المشكلة هي توزيع الثروة على كل فرد من الرعية، فيجب أن يعالج هذا التوزيع بحيث تصل هذه الثروة لكل فرد. فالأدلة جاءت على أن هذا التوزيع يجب أن يصيب كل فرد، ولأجل أن يصيب كل فرد يجب أن يعالج من حرم منه، أي أن يعالج الفقراء والمساكين وابن السبيل والسائلين، أي من تحققت فيهم صفة الفقر. وهذه هي أدلة الشق الأول من المادة.

أما الشق الثاني من المادة فإن الدليل عليه أن الله تعالى قد أباح الملكية إباحة عامة في كل سبب أباح التملك به، فقال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ أَحَاطَ حَائِطاً عَلَى أَرْضٍ فَهِيَ لَهُ» أخرجه أحمد وأبو داود بإسناد صححه ابن الجارود والزين، وقال تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ﴾ [المائدة: 96] وهكذا فإباحة الملكية وعموم هذه الإباحة، لكل فرد من أفراد الرعية؛ المسلم والذمي سواء، يدل على تمكينه من حيازة الملكية ومن السعي لها، وكذلك جاءت أدلة الانتفاع بالأكل واللبس والسكنى والتمتع عامة، قال تعالى: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا﴾ وقال عليه الصلاة والسلام: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» أخرجه البخاري من طريق المقدام. وقال تعالى: ﴿كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ﴾ [الأنعام: 142] وقال تعالى: ﴿وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً﴾ [المائدة: 88] وقال تعالى: ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة: 172] وقال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [الأعراف: 32] وغير ذلك من الأدلة. وكلها جاءت عامة، وعموم هذه الإباحة تشمل بالانتفاع كل فرد من أفراد الرعية مسلماً كان أو ذمياً، وهذا كله يعني أن الشريعة قد مكنت كل فرد من الرعية من حيازة المال، ومن الانتفاع به.

وعلى هذا تكون الأدلة الشرعية قد جاءت وبينت المشكلة الأساسية ما هي ببيان علاجها، فبينتها أنها فقر الأفراد، وعدم تمكين كل فرد منهم من حيازة المال والانتفاع به، حين جاءت فصبت علاجها على فقر الأفراد، وأباحت حيازة المال والانتفاع به إباحة عامة، وجعلت هذه الإباحة الأساس في شؤون الاقتصاد. هذه هي المشكلة الأساسية، أو بتعبير آخر المشكلة الأساسية هي توزيع الثروة، وليس إنتاج الثروة، إذ هي فقر الأفراد، وعدم تمكينهم من حيازة الثروة ومن الانتفاع بها، وليس فقر البلاد وحاجتها للثروة، فتكون المشكلة هي التوزيع وليس الإنتاج.

والدليل على أن المشكلة الأساسية هي التوزيع وليس الإنتاج، هو الأدلة الشرعية التي جاءت لمعالجة الفقر، وإباحة الملكية، وإباحة الانتفاع بها، وكذلك واقع الحياة الاقتصادية. أما بالنسبة للأدلة الشرعية فإن هناك أدلة جاءت لمعالجة فقر الأفراد، وإباحة الملكية، وإباحة الانتفاع، أي أدلة جاءت منصبة على التوزيع، وهناك أدلة جاءت لمعالجة فقر البلاد، أي جاءت للإنتاج. وبالتدقيق في أدلة كل من الأمرين يتبين أن أدلة فقر الأفراد، وإباحة الملكية، والانتفاع، جاءت من الكثرة والتنويع إلى حد يلفت النظر، مما يدل على بالغ الاهتمام، وجاءت تعالج أصلاً وليس أمراً فرعياً. فالآيات والأحاديث المتعلقة بالفقر، أي بسوء التوزيع ومعالجته، بلغت حد الاستفاضة، والأدلة التي جاءت لإباحة الملكية بلغت كذلك حد الاستفاضة بإباحة الملكية وإباحة الانتفاع. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الذي عالجته وهو الحيازة للثروة أصل في الاقتصاد ليس وراءه أصل، وعنه تتفرع جميع مشاكل الاقتصاد، فهو إذن المشكلة الأساسية. ومن هنا جاء أن المشكلة الأساسية هي التوزيع، أي أن كون أدلة الفقر وأدلة إباحة الملكية والانتفاع مستفيضة، وكونها تعالج أصلاً ما بعده أصل، وعنه تتفرع جميع مشاكل الاقتصاد، دليل على أن المشكلة الأساسية في الاقتصاد هي التوزيع. وهذا بخلاف أدلة فقر البلاد، أو بعبارة أخرى أدلة الإنتاج، فإنها جاءت محدودة معدودة، وجاءت تعالج ما يقتضي الإنتاج، لا الإنتاج مباشرة. وما جاء منها دليلاً على الإنتاج مباشرة لا يكاد يذكر. فقد جاءت أحكام شرعية تقتضي إيجاد الثروة في البلاد، أي تقتضي علاج الإنتاج. فقوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: 60] يقتضي وجود الثروة في البلاد ويوجب العمل لإيجادها. وتوفير الأمن للرعية والقيام بمصالحها وما يلزم لها من شق طرقات وإيجاد المياه وبناء المدارس والمساجد وتوفير التطبيب والتعليم ومعالجة الحوادث الطارئة كالزلازل والطوفان والنهوض بأعباء الرعية من كل ما يلزم، كل هذا وما شابهه يقتضي وجود الثروة ويوجب العمل لإيجادها. وكذلك معالجة فقر الأفراد الذي هو المشكلة الأساسية لا يتأتى إلا بوجود الثروة فهو يحتم العمل لإيجادها. فهذه الأحكام تعالج ما يقتضي الإنتاج، وليس الإنتاج نفسه. ولكنها تدل على وجوب الإنتاج من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وأما الأحكام الصريحة التي جاءت في الحث على إيجاد الثروة فإنها وإن كانت موجودة ولكنها محدودة معدودة، فقد قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: 10] وقال تعالى: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ﴾ [الملك: 15] وقال عليه الصلاة والسلام: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» أخرجه البخاري من طريق المقدام. وقال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلاَلاً، اسْتِعْفَافاً عَنِ المَسْأَلَةِ، وَسَعْياً عَلَى أَهْلِهِ، وَتَعَطُّفاً عَلَى جَارِهِ، جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَجْهُهُ كَالقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» أخرجه البيهقي في الشعب عن مكحول مرسلاً. وقال ﷺ: «طَلَبُ الحَلالِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق أنس بإسناد حسنه الهيثمي والمنذري. فهذه أدلة مباشرة في الحث على طلب الرزق، أي في الحث على الإنتاج، أو بتعبير آخر بمعالجة فقر البلاد، ولكن يبدو منها أيضاً أن المخاطب بها الأفراد، وأن الحث على الإنتاج إنما هو لمعالجة حاجتهم الفردية، إما بسد العوز، أو بزيادة ملكيتهم، أي إباحة الانتفاع، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن الذي عالجته هذه الأدلة مباشرة أو مما تقتضيه إنما هو العمل للملكية، وليس العمل فقط. أي هو الإنتاج للحيازة، وليس الإنتاج فقط. مما يدل على أن العمل ناتج عن الحيازة، وهو يدل على أنه فرعي وليس أصلياً. فهو فرع عن الحيازة وليس أصلاً لها. ولذلك جاءت الأحكام التي تقتضي الإنتاج بالحيازة وكان الإنتاج مما تقتضيه، وجاءت الأحكام المباشرة في أدلتها تبين الإنتاج للانتفاع، فجعلت السعي من أجل الأكل في الآية، وجعلت الأكل من السعي في الحديث الأول، وعبرت عن السعي بطلب الدنيا وطلب الحلال في الحديثين الثاني والثالث، وكل هذه الأحكام بأدلتها تعني حيازة المال. وهذا كله يدل على أن الإنتاج ليس المشكلة الأساسية، بل هو مشكلة من مشاكل الاقتصاد، ويدل كذلك على أن المشكلة الأساسية هي الملكية، أو بعبارة أخرى هي الحيازة، وهذا يعني أنها التوزيع.

هذا كله بالنسبة للأدلة الشرعية، أما بالنسبة لواقع الحياة الاقتصادية فإن الذي لا ينكره أحد أن كل بلد يعاني اضطراباً اقتصادياً إنما يعانيه من جراء سوء التوزيع، وليس من جراء قلة الإنتاج. فالنظام الاشتراكي ومنه الشيوعي ما ظهر إلا نتيجة للظلم الذي عاناه المجتمع من النظام الرأسمالي، أي نتيجة لسوء التوزيع. والترقيعات التي يحاول الرأسماليون إدخالها على نظامهم كلها تتعلق بالتوزيع. والاجتهادات الاشتراكية إنما تتناول مسألة التوزيع، والأقطار التي يسمونها أقطاراً متخلفة إنما تخلفها كان من جراء سوء التوزيع، وليس من فقر البلاد. ولذلك فإن واقع المشكلة الأساسية في الاقتصاد إنما هي سوء التوزيع، وليس قلة الإنتاج. وهذا شيء ملموس يلمسه كل إنسان، سواء أكان مسلماً أم رأسمالياً أم اشتراكياً. فإن العالم كله فيه من الإنتاج ما يزيد على حاجات الناس، ولكن سوء توزيعه جعل بعض الناس أغنياء غنىً فاحشاً، وبعض الناس فقراء فقراً مدقعاً. حتى البلدان التي تشكو قلة الإنتاج فإن المشكلة الأساسية التي تعانيها هي سوء التوزيع في الدرجة الأولى، ثم تأتي قلة الإنتاج. وعلى هذا فإن واقع الحياة الاقتصادية يدل على أن المشكلة الأساسية في الاقتصاد هي التوزيع، وليس الإنتاج. (انتهى)

خلاصة القول: لا تعطني سمكا، علمني كيف اصطاد ودعني اصطاد، واتركني أبيع ما زاد عن حاجتي ووفر لي إمكانية تطوير نشاطي ولكل مجتهد نصيب.

وما يقوم به النظام المصري هو الجمل السابقة نفسها ولكن بصيغة النفي. وهذا الظلم بعينه في حق الشعب ناهيك عن الظلم الأكبر وهو عدم تطبيق نظام الإسلام إضافة إلى محاربته وقمع كل من يدعو إلى تطبيقه.

﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ [سورة يوسف: 32]


كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
جمال علي


المصادر:
1- تاريخ صناديق التعويض في سويسرا.
2- دعم السلع هذا "الثقب الأسود" في الميزانية المصرية. (الإندبندنت بالعربية)
3- الأوقاف من لفائف الخمسينيات إلى لفائف الستينيات السوداء. إبراهيم البيومي غانم (موقع اضاءات).
4- تطبيق مقدمة الدستور:
https://play.google.com/store/apps/details?...dustooralummah2