فقر وقتل وتشريد ودمار، ذلك هو المشهد الذي يعبر عن حال بلاد المسلمين منذ هدم الخلافة العثمانية وهو ذاته حال اليمن كجزء من هذه البلاد؛ اليمن التعيس بعد أن كان سعيدا! وهو واقع يعكس حال التشرذم والانقسام لأوس وخزرج اليوم كما كان حالهم بالأمس في مدينة رسول الله، تقتلهم العنصرية والعصبية والأنانية والسلطة وحب الذات وتسلط أعدائهم يهود عليهم. فها هو المشهد يعود ويتكرر في ظل يهود اليوم أمريكا وبريطانيا تسوقهم للهاوية والنار الحامية في ظل صراع محموم ومسعور بينهما طال البشر والشجر والحجر وعبر أدواتهما دولا إقليمية وأحزابا وحركات باتت خدما للعباد بدلا من رب العباد، فالصراع مستعر بين الطرفين وأدواتهما وذلك من أجل الحصول على أكبر قدر ممكن من مساحة الأراضي والبحار والخلجان والمضائق (هرمز والمندب) والنفط والثروات والمشائخ والولاءات، فها هي مناطق اليمن صارت مستباحة لصراع قوي بين قوى شريرة داخلية في شمال البلاد وجنوبها بدءا بمناطق الخلاف والنزاع والحرب إلى المناطق البعيدة كحضرموت والمهرة وسقطرة ليدل ذلك بوضوح على حجم تدخل الدول الخارجية في أطراف النزاع الداخلية (الحوثي والشرعية) بحجج واهية وكاذبة كحفظ أمن البحار والمضائق والخلجان في ظل غياب سلطة سميت بالشرعية وما هي كذلك. فقد وصل قرابة 40 جنديا بريطانيا للمهرة عبر 5 طائرات في 2021/8/7م بحجة تعقب (إرهابيين) "يعتقد أنهم حوثيون يقفون وراء الهجوم الذي استهدف ناقلة النفط ميرسر في خليج عمان بطائرة مسيرة" (إكسبرس البريطانية 2021/8/7)، وقد ذكر (المصدر المشاهد) علي مبارك محاميد المتحدث باسم لجنة اتصال المهرة "أنه وصلت سابقا قوات بريطانية عام 2019م" وأضاف "أن الهدف هو احتلال المحافظة وتثبيت الوجود السعودي في المهرة وذكر أن لديه خطوات تصعيدية لإخراج كل القوى المحتلة" وقد ذكر الدكتور نبيل الشرجبي أستاذ الأزمات والصراعات في جامعة الحديدة أن "وصول القوات البريطانية للمهرة خطوة تأتي ضمن البقاء الطويل وشبه الدائم وليس لمطاردة المخربين" حيث شهدت المحافظة 4 أعوام من الحراك الشعبي المناهض للقوات السعودية المتمركزة في مطار الغيظة. يأتي هذا ليدل بوضوح على تتابع بريطانيا في الاهتمام والاعتناء بمحافظتها من أيام الرئيس السابق علي صالح ودور عمان (المحمية الإنجليزية) في الحفاظ على مصالح بريطانيا مضافا لذلك المحافظ ورجالاته ذوو الولاء العماني من عشرات السنين وضد أي وجود سعودي أمريكي.

أما مأرب فمن مجريات الأمور والوقائع نرى أنها تشهد إصرارا كبيرا من الحوثي للسيطرة على المدينة ودفع مقاتليه والزج بهم في هذه الحرب بعد مساعدات ودعم دولي وضوء أخضر وعلى وجه الخصوص من أمريكا لدخول المدينة حيث صرح حسين العزي الكاتب الصحفي منتقدا المواقف الدولية تجاه محاولات الحوثيين السيطرة عليها، ويرى أن هناك ضوء أخضرا أمريكيا بإطلاق يد الانقلابيين للقتل والدمار أسوأ من قبل، كما جاء لقاء بلينكن مع وزير الخارجية السعودي مؤخرا ليصب في هذا الاتجاه حيث صرح الأول على ضرورة فتح المطارات وإنهاء الحصار وقد كان هذا الدعم قديما يصب في مصلحة الحوثي من وجوه عدة:

1- إيقاف جبهات الحديدة والبيضاء والجوف سابقا حفاظا على الحوثي من اقتحام قوات (الشرعية) لمناطقه.

2- منع قوات هادي من الوصول والتقدم نحو صنعاء والحديدة والبيضاء سابقا ومن يتقدم يضرب بالطائرات.

3- إسقاط معسكرات من الصعب سقوطها وفق اتفاقيات وبيع وشراء وصفقات نابعة من المماحكات والمصالح السياسية بين أطياف الطرف الواحد المتنازعة.

4- عدم دعم قوات هادي (الشرعية) في مأرب وغيرها من المناطق بالمال والسلاح والقوة النوعية لحسم المعركة وجعله الحلقة الأضعف، وهذا واضح كما صرح ذلك القائد العسكري محسن خصروف مرات عدة حيث التواطؤ من السعودية المسيطرة على جبهة مأرب والجوف والدفع بالانسحاب من جهات عديدة من الشرعية لصالح الحوثي.

5- الاقتتال بين أطراف القوى المحسوبة على الشرعية جبهة طارق صالح وحزب الإصلاح.

6- موقف عبد ربه رئيس الجمهورية الذي بات مأسوراً لصالح السعودية ولا يحرك ساكناً وإنما فقط قرارات يصدرها دون سلطة ودون تنفيذ ودون وجود واقع لها على الأرض، فقد بات رئيساً بدون صلاحيات حيث صرح يونس عبد السلام في موقع يمن للأنباء "إن الحكومة الشرعية فاقدة للحيلة وكأن لا خيار أمامها سوى الخضوع للضغوطات الدولية المتزايدة بمبررات الأوضاع الإنسانية" ويضيف "لا تعاني الحكومة الشرعية سوى من هوان قياداتها السياسية والعسكرية وتراخيها في الميدان". أما عادل الشجاع الكاتب في المشهد الدولي اليمنية فقال "لا تزال المواقف الأمريكية كلامية مهزوزة لا تخرج عن نطاق الشجب والتنديد والاستنكار" ويرى "أن أمريكا اليوم تعادي المليشيات التابعة لإيران ظاهريا فيما هي تدعمها في الباطن حيث يرى أن أمريكا تسعى إلى تثبيت خارطة الهلال الشيعي من اليمن انطلاقا نحو القطيف في السعودية".

هذا وقد شهدت الأشهر السابقة لقاءات عديدة بين السفير الأمريكي ومحافظ مأرب سلطان العرادة في إشارة إلى الضغط عليه لتسليم المحافظة، يتزامن هذا مع الخطاب الموجه من الحوثيين له لتسليم المحافظة على أن يبقى محافظا لها، وهذا لن يحدث لأنه بعد أشهر قليلة سيقال المحافظ. يحرص الحوثيون على السيطرة على مأرب لعدة وجوه فهي: محافظة غنية بالنفط، ومنطقة مهمة وتشكل ورقة ضغط سياسية في المباحثات القادمة كمقايضة على منطقة أخرى تشكل آخر معاقل السلطة في شمال البلاد حيث يطوق الحوثي طوقاً خانقاً على المحافظة من 3 جهات الشمال والجنوب والغرب. وهي تعد مكسبا عسكريا وسياسيا يصب في رفع المعنوية للفوز بمناطق أخرى كالحديدة الميناء البحري المهم والمصدر الاقتصادي الحيوي، وتعز ذات الكثافة البشرية والتي يحتاجها الحوثي النهم والشره في حربه التي لم تنته.

أما شبوة فهي ضمن الشرعية ومحاولة الحوثي للدخول فيها ما هو إلا كسبها كونها محافظة نفطية.

أما حضرموت فتحاول أمريكا أن تضع لها موطئ قدم في المكلا من خلال الإنزال الأخير، يأتي هذا بعد وجود سابق للقوات الأمريكية في مطار الريان ومحاولة دعم رجلها حسن باعوم الزعيم الانفصالي السابق المقيد والممنوع من التحرك داخل المحافظة والمدعوم من إيران في ظل صراع إنجلو أمريكي محموم في الساحل (المكلا والريان والشحر). أما حضرموت الوادي؛ سيئون والقطن والعبر فهي مناطق نفطية تشهد حضوراً لعلي محسن رجل الإنجليز فيها بمعسكراته.

أما عدن فتحاول السعودية أن تجد لها مكاناً فيها من خلال شراء رجالات، وما الاشتباكات الأخيرة بين أعضاء المجلس الانتقالي إلا من هذا القبيل بين رجالات الزبيدي والنوبي الذي يدعي ضرورة إصلاح الوضع والذي من الممكن أن تكون السعودية قد وجدت ضالتها فيه من خلال استهوائها إياه فأراد الزبيدي تأديبه عبر الأحداث الأخيرة من المناوشات والاشتباكات في كريتر معقل حسن باعوم.

أما سقطرة فتحتلها الإمارات وتحاول أخذ قطاعات نفطية مكتشفة حديثا وتسيطر على جزيرة ميون المهمة الواقعة في مضيق باب المندب.

إن الحرب في اليمن لتؤكد على عناد بين الأطراف دافعه القوى الدولية أمريكا وفي المقابل بريطانيا العجوز التي تشهد ضعفا في مواجهة أمريكا وأذنابها الحوثي والسعودية وإيران وفصيل باعوم الجنوبي من حيث وجودها الدولي وانكسار شوكتها وأذنابها وتخاصمهم واقتتالهم حول المصالح، فالخلاف بين الانتقالي والإصلاح والشرعية والمؤتمر والإمارات الداعمة للانتقالي وتكيد لخصمها الإصلاح كل المكائد. يأتي هذا كله مع وجود تكاتف بين قوى الطرف الآخر.

وتحاول بريطانيا الاستفادة من الوضع الراهن وإلا فستلجأ للاقتسام والمحافظة على ما تبقى لها من مكاسب دون خسرانها مزيدا من المصالح مع مرور الوقت وكأنها تريد إيقاف الحرب أو الانتهاء منها أمام تقدم كبير للحوثي في مأرب والجوف ليعكس حالة التخبط عند (الشرعية) وحالة النجاح في تحقيق الحوثي لمصالحه في إطالة الحرب حيث المزيد من الوقت لكسب مصالح أكثر، ويؤكد ذلك يونس عبد السلام (الأنباء اليمني) بقوله "إن جماعة الحوثي تتجاهل دعوات السلام وتتعامل معها كتحصيل حاصل"، فلو كان الحوثي خاسرا لما كان مقدما على مزيد من الحرب بل كان الأحرى به العمل على إيقافها كما دعمت أمريكا ذلك في السابق، فكانت المنقذ له عندما كانت الشرعية تتقدم في ظل تراجع لصفوفه، وها هو الحال عاد معكوسا عن السابق حيث كان الطيران يضرب أي تقدم تحرزه الشرعية حيث كانت الأمم المتحدة تطلق نداءاتها الإنسانية العاجلة وتقدم المعونات والتي تحد من استمرار الحرب أو الهجوم من طرف الشرعية. لذلك فإن وجدت بريطانيا نفسها خاسرة فستقدم على تهيئة الظروف لإيجاد الانشطار والانقسام بين شمال اليمن وجنوبه عبر عملائها لاستفرادها بالجنوب (والاستحواذ على ما تبقى من تركة علي صالح التي ورثها الحوثي) وأمريكا بالشمال ولكن من الاستقراءات يظهر أنه لا تزال هناك مصالح ترجوها من وحدة الشطرين في العهد القريب فقد جاء على لسان أيمن نبيل الكاتب في صحيفة العربي الجديد اللندنية "إن أولوية المجلس الانتقالي فصل الجنوب عن الشمال وإذا استطاع الحوثيون إسقاط مأرب ستلفظ الحكومة الشرعية أنفاسها الأخيرة وهي العقبة الرسمية أمام مشاريع الانفصال".

إن استيلاء الحوثي على مأرب سيعزز موقف أمريكا في الحرب في اليمن سواء على الأرض أو في أي مباحثات قادمة وسيجعل فم الحوثي مفتوحا للاستيلاء على مناطق أخرى، الحديدة وتعز؛ لتقوى شوكته في التهام أكبر قدر ممكن من الأرض في الشمال حسب سياسية الأمر الواقع والذي يفرض تغير المعادلة سواء معادلة مساحة الأرض أو نوعيتها النفطية أو الموقع الاستراتيجي أو الكثافة البشرية وغيرها كضغط سياسي يستغل في أي مباحثات قادمة لإعادة صياغة اليمن الجديد وفق خارطة يرتضي بها دول الغرب المستعمرة وفق مصالحه، وهذا يتوافق ما صرح به صالح البيضاني (صحيفة العرب اللندنية) "يدرك الحوثي أنه بالسيطرة التي لم تتحقق بعد على مأرب سيتمكن من تغيير المعادلة بشكل أفضل ليس معادلة الحرب والسلام بل المعادلة داخل صفوف الشرعية ذاتها" ويتابع "إن الحوثيون لن يتوقفوا في حالة السيطرة على مأرب عند حدود ما قبل 1990م بل سيتوجهون للسيطرة على تعز قبل استكمال معركة الحديدة" وليس لهذا الحد فالمطامع أو النهم الرأسمالي لا حدود له، فتحاول أمريكا ابتلاع الجنوب من خلال رجالاتها في حضرموت وعدن وأبين وسوقطرة وغيرها من المناطق بعد أن كان هذا رقما صعبا في عهد الرئيس السابق علي صالح كونه عميلا للإنجليز، وفي ظل توافق سعودي إيراني يؤمنان للحوثي السلاح والانتصار في الأرض وتثبيت للعملة في الشمال وضوء أخضر دولي، فقد صرحت بي بي سي: "إيران: المحادثات مع السعودية بناءة وتقدمنا بمقترحات لتحقيق السلام في اليمن"، أما العرب اللندنية "بوادر اللين المسجلة أخيرا في مواقف كل من السعودية وإيران بشأن العلاقة بينهما وملامح التهدئة الملموسة في الخطاب السياسي للغريمتين الإقليميتين أحيت الأمل في إيجاد مخرج سلمي للصراع الدامي في اليمن".

نعم هذا واقع الصراع الإنجلو أمريكي يلقي بظلاله يوماً بيوم ليعكس عتمة الدجى بحجج واهية وكاذبة ويزداد طغيان هذا الاستعمار من خلال أدواته. فإلى متى يستمر التقاسم والتشرذم رغم أن الحقيقة واضحة وهي تبعية جميع الأطراف والتي تؤدي بهم إلى مزيد من التفرق والخسران والهلاك يوما بعد يوم؟! إن الخاسر في هذه الحرب وكل حروب المسلمين هم المسلمون أنفسهم لأنها حرب عليهم وعلى مصالح دنيوية حقيرة وليست على الغرب عدو الإسلام، فما على المسلمين سوى فهم أحكام الإسلام وفهم الواقع السياسي المعاش لتغيير هذا الواقع السيئ والعمل على تطبيق الإسلام في دولة كريمة تعز المسلمين وترضي العباد ومن قبلُ رب العباد وهي دولة الخلافة على منهاج النبوة.


كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
عبد الرحمن العامري – ولاية اليمن