شهدت في الأيام الماضية، مناطق في غرب السودان، وبخاصة محلية جبل مون شمال الجنينة غرب دارفور، أحداثاً دامية، فقد أفاد تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية (أوتشا)، أنه في 20 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، تصاعدت الاشتباكات القبلية بين البدو والمزارعين من قبيلة المسيرية، وفي 25 من الشهر نفسه أعلنت الأمم المتحدة، مقتل المئات وحرق الكثير من القرى، جراء اقتتال قبلي بين البدو العرب وقبيلة المسيرية، بمنطقة جبل مون في ولاية غرب دارفور، أقصى غربي السودان، وأضاف المكتب الأممي، وفقا للبيانات التي جمعت خلال التقييم المشترك بين الوكالات الإنسانية الذي تم بين 29 تشرين الثاني/نوفمبر و2 كانون أول/ديسمبر الجاري، نزح داخليا 6.665 شخصا إلى قريتي هيجليجة وسيلي بالمنطقة، وقرى في ولاية شمال دارفور، فيما عبر حوالي 2.261 شخصا إلى تشاد اعتباراً من 30 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. (القدس العربي 2021/12/12م).

والجدير بالذكر أن جبل مون اكتسب شهرته بإحدى أهم المحاكمات السياسية في تاريخ السودان الحديث ضد نائب الرئيس السابق جعفر نميري، وكان هذا الجبل محور فضيحة استخباراتية بطلها مدير منظمة ألمانية حاول سرا استغلال اليورانيوم الضخم الموجود في الجبل تحت غطاء تقديم الإغاثة للسكان المحليين المتأثرين بالمجاعة الطاحنة التي ضربت المنطقة (سكاي نيوز العربية 2021/12/10).

ومما يجدر ذكره أن التركيبة السكانية في دارفور قد صممت على أسس قبلية منذ عهد الاستعمار البريطاني، فكان الجزء الجنوبي من إقليم دارفور للمساليت، والشمالي أعطي لمجموعة الأرنقا، ومحلية كلبس لقبيلة القِمِر، وأما جبل مون فللمسيرية وسموا أنفسهم مسيرية جبل، ونجد أن شرق الولاية تركيبته مختلطة من قبائل شتى. وكانت بعض القبائل العربية تتنقل في عموم المنطقة للرعي، وقد قسم الاستعمار هذه المناطق إلى حواكير تختص كل قبيلة بواحدة منها، وهكذا تم توزيع التركيبة السكانية على أسس قبلية، واستمرت الحكومات المتعاقبة على النمط نفسه، وحتى إنها سعت لتركيز القبلية وجعلتها ضمن حصص توزيع الثروة والسلطة فاشتد الصراع بين القبائل في هذه المنطقة بسبب صيرورة الملكيات العامة؛ من أحراش ومعادن، حكرا على قبائل معينة ويصعب على الآخرين الحصول عليها.

وفي كل هذه الأحداث التي وقعت في الأيام الماضية، لم تتدخل الحكومة لحسمها، بل عادت الفوضى مرة أخرى يوم 2021/12/2 فأهدرت الدماء، وسلبت الأموال، وهتكت الأعراض طوال الشهرين الماضيين، ضاربين عرض الحائط بقول النبي ﷺ: «لَنْ تُفْتَنَ أُمَّتِي حَتَّى يَظْهَرَ فِيهِمُ التَّمَايُزُ، وَالتَّمَايُلُ، وَالْمَقَامِعُ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا التَّمَايُزُ؟ قَالَ: «التَّمَايُزُ: عَصَبِيَّةٌ يُحْدِثُهَا النَّاسُ بَعْدِي فِي الْإِسْلَامِ» قُلْتُ: فَمَا التَّمَايُلُ؟ قَالَ: «تَمِيلُ الْقَبِيلَةُ عَلَى الْقَبِيلَةِ فَتَسْتَحِلُّ حُرْمَتَهَا» قُلْتُ: فَمَا الْمَقَامِعُ؟ قَالَ: «سَيْرُ الْأَمْصَارِ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ تَخْتَلِفُ أَعْنَاقُهُمْ فِي الْحَرْبِ» المستدرك للحاكم، بعد هذا القتل، سمعنا بأصوات من حكومة الولاية والمركز تنادي بتكوين لجنة أمنية مشتركة من قوات الأمن والجيش، والحركات المسلحة، لجمع السلاح وحفظ الأمن وفرض هيبة الدولة. وفي يوم الجمعة 2021/12/10 اجتمع بعض قيادات المسيرية في غرب دارفور، وتعاهدوا على عدم الاعتداء لحين قيام مؤتمر الصلح، وقد وقع على هذا الاتفاق أكثر من خمس عشرة من الإدارات الأهلية.

وبحسب موقع سودان برس في 2021/12/11م، فقد أعلن حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي عن تبنيه مبادرة لجان المقاومة والإجسام الثورية والشباب المستقلين بجنوب دارفور التي تهدف إلى وقف النزاعات والعنف القبلي بالإقليم ومحاربة خطاب الكراهية وأن مبادرتهم تتخذ من الحوار منهجاً لمعالجة النزاعات بدلاً عن الفزع وأخذ الثارات بين القبائل، تحت شعار (الحل في العدل والحوار وقبول الآخر). وغيرها من التخبطات التي يرتكبها حكام المنطقة، حيث نوه والي غرب دارفور الهادي إدريس إلى تشكيل قوة مشتركة ذات مهام خاصة لحسم التفلتات الأمنية في ولايات دارفور، وقال: "إننا نريد تجميع هذه القوات في معسكر جديد السيل وانتشارها في ولايات شمال وغرب وجنوب دارفور". (سونا 2021/12/11).

إن الأمن وضبط التفلتات لا يصلح فيها تصريحات عشوائية هنا وهناك في ظل نظام علماني، وإنما تحتاج إلى نظام من عقيدة أهل البلاد، تطبق أحكامه في دولة قائمة على الإسلام العظيم، هي دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، فالإسلام قد شدد على منع الاقتتال، بل صهر الناس في بوتقة واحدة، فكانت أحكامه جامعة للناس كافة، ولم يعتبر الناس على أسس قبلية أو جهوية، فهي أحكام تعالج قضايا الإنسان باعتباره إنساناً لا بأي اعتبار آخر، فجعل الملكيات العامة التي يتصارع حولها أهل دارفور مع الشركات وبعض الأفراد هي ملكاً لكل الناس، كما جعل الأحراش للبهائم السائمة وليست لفئة دون أخرى. أما الحكم فهو قائم على أساس الإسلام ولم يشترط فكرة المحاصصات القبلية التي يتم الاتفاق عليها في موائد المفاوضات، وإنما كما قال الفاروق رضي الله عنه: "لا يقضي بين الناس إلا حصيف العـقـل أريب العقدة لا يطلع منه على عورة ولا يحنق على جرة ولا تأخذه في الله لومـة لائـم".

إن الذين يتعرضون لأمن الناس وأموالهم وأعراضهم، فإن دائرة الأمن الداخلي في دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، ترسل الشرطة لمطاردتهم، وإيقاع العقوبة عليهم بالقتل والصَّلْب، أو القتل، أو قطع أيديهم وأرجلهم من خِلاف، أو نفيهم إلى مكان آخر، حسب ما جاء في الآية الكريمة: ﴿إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ﴾.

ودائرة الأمن الداخلي تقتصر على استخدام الشرطة في محافظتها على الأمن، وليس قوة أمنية مشتركة من حركات متمردة وجماعات قبلية مسلحة وشركات أمن خاصة ولا غيرها، التي لا وجود لها في ظل الخلافة، وإنما تستخدم دولة الخلافة الشرطة، ولا تستخدم غيرها إلا في حالة عجز الشرطة عن إقرار الأمن، فتطلب عند ذلك من الخليفة أن يمدها بقوات عسكرية أخرى، أو بقوة من الجيش، حسب ما تدعو الحاجة إليه. فهل يرعوي الحكام وأهل دارفور فيعودوا إلى أحكام رب العالمين التي فيها النجاة والأمن والاستقرار في الحياة الدنيا، والفلاح في الآخرة؟!

بقلم: الأستاذ إبراهيم مشرف
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية السودان


المصدر: جريدة الراية