كثر الحديث في وسائل الإعلام في الأيّام الأخيرة عن تصعيد الخطاب بين المتصارعين في تونس، الرئيس قيس سعيّد من جهة ومعارضيه ومنهم راشد الغنوشي رئيس مجلس النواب ورئيس حركة النهضة، من جهة أخرى. والتصعيد في الخطاب المقصود ما جاء في كلام راشد الغنوشي يوم 11/27 يوم قال: "البرلمان عائد أحب من أحب وكره من كره"، ثمّ ما جاء في خطاب الرئيس قيس سعيّد يوم 2021/11/30 بمناسبة اجتماعه بالمجلس الأعلى للجيوش، وفي خطابه مدح القوات المسلحة العسكرية لما تبذله للحفاظ على الدولة والدفاع عن الوطن، مشيدا بدورها في تأمين سير الانتخابات والامتحانات الوطنية وحملات التلقيح.

وأكد أنّ تونس قوية بشعبها وبتاريخها الحافل بالبطولات والأمجاد وهي بحاجة إلى الصادقين المخلصين للوطن، ودعا الجيش إلى مواصلة العمل من أجل تحمّل الأمانة كاملة للتصدي لكل من يتربص ببلادنا ولتحقيق آمال الشعب وعدم إيهامه بقوانين لن تجد طريقها إلى التطبيق. (في إشارة إلى القانون عدد 38 الذي صادق عليه مجلس النواب).

وقال: "إنّ الدّولة ليست لقمة سائغة ومؤسساتها ستبقى قائمة... وأنّ كل من يعمل على ضرب الدولة أو التسلل إلى مؤسساتها فهو واهم". ولم ينس الرئيس سعيّد، التأكيد على العمل وفق الدستور والتمسك باحترام الحقوق والحريات وتطبيق القانون على الجميع على قدم المساواة".

فهل نحن أمام تصعيد في الخطاب وبالتالي على أبواب مرحلة جديدة في الأزمة السياسية في تونس؟ وما دوافع هذا التصعيد؟ وما هي غاياته؟ وهل هو من أجل مصلحة البلاد؟

خطاب الرئيس: تصعيد أم ردّ فعل معتاد؟

خطاب الرئيس جاء في سياق الرد على كلام الغنوشي ومستشاره رياض الشعيبي الذي قال: "إنّ مجلس النواب عائد وأول أعماله إبطال قرارات 25 جويلية".

إذن فخطاب الرئيس هو خطاب رد فعل على كلام معارضيه، وجاء الخطاب على الوتيرة نفسها من التخوين والتهديد ثم التأكيد على أنّ مساره ماض ولا تراجع فيه، وهذا ليس تصعيدا من الرئيس إنما حافظ على اللهجة والمصطلحات نفسها، فكل خطابات سعيّد سواء منذ 25 تموز/يوليو بل منذ حملاته الانتخابية في 2019. فخطابات الرئيس لا تحمل جديدا حتى صارت متوقعة بل مملولة ومستهجنة من الجميع تتكرر الخطابات المهددة نفسها، دون فعل حقيقي على الأرض، بل ما يراه الجميع عجز يزداد مع الأيام، وتزداد معه خسارة المؤيدين كل يوم، ويزداد معه إدراك أنّ الرئيس لا يستطيع شيئا، فهو لم يستطع حل مشكلة النفايات المنزلية في أكبر مدن الجنوب صفاقس فأنى له أن يحل ما هو أعقد منها؟!

خطاب الغنوشي رئيس البرلمان تصعيد مدروس... لماذا؟

وفي هذا الإطار من العجز نقرأ خطابات الخصوم وبخاصة حركة النهضة، كلمة الغنوشي: "البرلمان عائد أحب من أحب وكره من كره"، ثمّ كلمة مستشاره السياسي أنّ البرلمان سيعود ويبطل كل قرارات الرئيس، هي التي يصدق عليها تصعيد.

فالتصعيد إذن جاء من حركة النهضة، ونرى هذا التصعيد في مسار واضح ففي 26 تموز/يوليو انسحب الغنوشي وأنصاره من أمام البرلمان (بعد موقف قطر والخارجيّة البريطانيّة بعدم التصعيد ووجوب التهدئة) وحينها تكلم الغنوشي قليلا ولوح بالتنازل وحتى بالاستقالة، ثمّ كان إخراج الأنصار إلى الشارع تحت عنوان شعبي لا حزبي (مواطنون ضدّ الانقلاب) وضم عناصر علمانية تتكلم باسم الحراك تحت قيادة ظاهرية لمنظمات المجتمع المدني، في استعراض للقوة مرتين مرة يوم 10/10 وأخرى في شهر 11 أمام مبنى البرلمان، ثمّ جاء تصريح الغنوشي المستفز أنّ "البرلمان عائد أحب من أحب وكره من كره"، بالتزامن مع دعوة الاتحاد البرلماني الدولي في دورته 143 في إسبانيا التي شارك فيها 5 نواب من البرلمان المجمد، وهي دعوة اعتبرها الغنوشي (والمراقبون) اعترافا صريحا بالبرلمان، وكان البرلمان الأوروبي في وقت سابق قد صوّت على قرار من 14 نقطة ضدّ إجراءات 25 تموز/يوليو وأرسل نسخة من القرار إلى رئيس البرلمان راشد الغنوشي، في اعتراف واضح بالبرلمان ورئيسه. وواضح من هذا المسار أنّ الغنوشي وحركته يجدون الدعم السياسي والمعنوي من الاتحاد الأوروبي ومن اتحاد البرلمانيين الدوليين، واستنادا إلى هذا الدعم صعد الغنوشي في خطابه ضد الرئيس؛ في تصريح مستفز، استفز الرئيس (الذي صارت كل أفعاله متوقعة) الذي استغل اجتماعه بالمجلس الأعلى للجيوش ليرد على تصريحات الغنوشي.

ويبدو أنّ الرئيس استُدرج ليقول ما قاله أمام مجلس الجيوش لتنطلق عاصفة من الردود من كلّ الأحزاب والمنظمات ضد قيس سعيّد تتهمه جميعها بأنّه يزجّ بالجيش في خصومة سياسية ويخرج بالجيش عن حياده المعروف. وأمام صمت الجيش (إذ الجيش لا دور له إلا المحافظة على مؤسسات الدّولة) وانحسار الدعم السياسي للرئيس سعيّد سواء من مؤيديه في الداخل أو من فرنسا التي لا نراها تحرك ساكنا رغم دعمها الأولي لقيس سعيّد.

والحاصل أنّ المشهد في تونس إنهاك للقوى وإهدار للطاقات وتيئيس للناس، في ظل أزمة اقتصادية تخنق النّاس وتجوّعهم، حتّى يرضوا بما سيُقدّم لهم، وحتّى يكفروا بالثورة وما جلبته عليهم.

وخلاصة الأمر: الصراع الحقيقي، أطرافه، موضوعه وما يجب فعله

حقيقة الأزمة لا تكمن في صراع العبيد، فصراعهم لا يكون بإرادتهم، إنّما هو صراع يوجّهه أسيادهم فيتصارعون إذا أراد لهم الأسياد ذلك وسيكفون عن الصراع حين يؤمرون بالتصالح والتوافق.

نعم سينتهي الصراع بين أجنحة السلطة في تونس بهاتف يأتيهم من وراء البحار، ولكن المستعمر ما زال يريد إشغال الناس لأنه بصدد التسلل في مفاصل الدولة والبلاد، يؤسس لتوازنات جديدة بدل تلك التي أسقطتها الثورة. نعم لن ينتهي الصراع إلا بعد أن يُتمّ السفراء وضع الأسس الجديدة التي تضمن لهم أنّ دول المنطقة ستبقى كيانات مفككة تابعة، وحينها ستعلن نهاية الصراع وبداية عهد جديد قديم، عهد من الاستعمار والوصاية على بلدان الديمقراطية الناشئة.

ولبّ المسألة التي لا يجب أن تغيب عن البال، أنّ الأمة الإسلامية اليوم ومنها تونس بدأت ثورة على الأوضاع التي تسببت فيها الديمقراطية والرأسمالية، وأنّ هذه الثورة صارت تُهدد الوجود الرأسمالي، وتهدد الهيمنة الاستعماريّة، وأنّ التهديد الأكبر للاستعمار أنّ الأمة التي يواجهها هي أمة الإسلام العظيم تاريخها حافل بالأمجاد والانتصارات، وأنّ أبناءها بدأت تشرئب أعناقهم نحو دينهم يريدون استعادة بلدهم ودينهم وأمجادهم، نعم هذا هو الصراع الحقيقي، أطرافه:

- الطرف الأول: المستعمر ويتمثل في أوروبا وبريطانيا وأمريكا التي تنظر إلى بلادنا كموقع استراتيجي تريد أن تتحكم فيه؛ ومنه تتحكم في شمال أفريقيا، وهذا الطّرف يستعمل الرئاسة والبرلمان والأحزاب ومنظمات ما يسمى بالمجتمع المدني،... لتحقيق مراده.

- أما الطرف الثاني في الصراع فهم أهلنا في تونس، الذين قاموا ثائرين على منظومة الاستعمار، ومعهم حزب التّحرير الذي يدعو إلى قلع النظام ورموزه وإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة تستأنف ما بدأه رسول الله ﷺ.

أمّا موضوع الصّراع:

المستعمر يريد الهيمنة والسيطرة، وأمّا المسلمون فيريدون التحرر، ويريد لهم الإسلام أن ينقذوا أنفسهم بل كل البشرية من ظلم الرأسمالية وجبروتها ومن استعباد الديمقراطية للبشر.

فلزم اليوم الوعي على حقيقة هذا الصراع، وأن نسير به في الاتجاه الصحيح؛ التصدي للكافر المستعمر وأدواته، وأن نقلعهم ونقلع نفوذهم، هذا هو الأساس، وواجب على الجيوش أن تقف في صف الأمة تدعمه وتنهي صراع العبيد هذا.


المصدر: جريدة الراية