العربيّة… لغة مهدّدة بدون الإسلام، فمن لها؟

مجلة الوعي

سيد الشنقيطي
تكاد تكون اللّغة العربيّة اليوم تتلوّن بألوان الأقطار العربيّة المختلفة إلى حدّ أنّ بلدًا عربيًّا استورد بُرقوقًا من بلد عربيّ آخر فصدّر إليه مِشمِشًا! هذا وصار بعضهم يؤلّف المعاجم العربيّة على منوال المعاجم الأجنبيّة الهجائيّة (أو الألفبائيّة كما يسمّونها تأثّرًا بلفظ alphabet الأجنبيّ) وذلك خلافًا للطّريقة المعجميّة العربيّة الّتي تعتمد على الجذور محافَظةً على وَحدة الأسرة اللّفظيّة الواحدة. وقد شاعت ظاهرة أخرى هي ابتداع أحرف جديدة في العربيّة لرسم أصوات في اللّغات الغربيّة الفوقيّة المهيمنة ثقافيًّا، وهي الإِنْكِليزِيّة والفَرنسيّة أساسًا. ولا وجودَ في العربيّة لهذه الأصوات وغيرها من الأحرف الغريبة الّتي توجد بامتياز في معجم المنجد في اللّغة والأعلام الصّادر عن دار المشرق ببيروت (وهو من وضع الآباء اليسوعيّين). فما مدى تأثير هذه الظّواهر على اللّغة العربيّة؟
إنّ العربيّة نَفيسَة لَدى الـمُسْلِمين لأنّها لُغَة القُرْآن الكَريم والحَديث النَّبَوِيّ الشّريف والشِّعْر الجاهِلِيّ – وهو ذو أهمِّيَة بالِغَة في فَهْم مُفْرَدات النُّصوص الشَّرْعِيَّة – وسائِر العُلوم الإِسْلامِيَّة. إنَّها لُغَة ثَرِيَّة إِذْ تَعْتَمِد أَساسًا عَلى الَاشْتِقاق الَّذي لا حُدود له في إنْشاء الـمُفْرَدات اللّازِمَة عِنْد الحاجَة إلى وَضْع مُصْطَلَحات الـمَدْلولات العِلْمِيَّة والتِّقَنِيَّة والـمَدَنِيَّة والحَضارِيَّة الجَديدَة. وهي لُغَة واسِعَة النِّطاق إِذْ تَمْتَدّ رُقْعَتُها مِنَ الخَليج العَرَبِيّ إلى الـمُحيط الأَطْلَسِيّ. زِدْ على ذَلِك أنَّها مُعْتَمَدَة في كَثير مِنَ الأَقْطار الإِسْلامِيَّة غَيْر العَرَبِيَّة في التَّعْليم والتَّواصُل بَيْن الفِئات مُخْتَلِفَة اللُّغات، عِلاوَةً على أنّها لُغَة رَسْمِيَّة لَدى العَديد من الهَيْئات الدُّوَلِيّة كمُنَظَّمَة الأُمَم الـمُتَّحِدَة وغَيْرِها؛ لذا تَتَسَنَّم اللُّغَة العَرَبِيَّة المَرْتَبَة الثّالثة عالَمِيًّا في تَرْتيب الُّلغات مِنْ حَيْث الَانْتِشار. وتُبَشِّر المُؤَشِّرات اليَوْم بأنَّها سَتُصْبِح اللُّغَة الأولى في العالَم مُسْتَقْبَلًا لأنَّها فَريدَة مِن نَوْعِها: فهي مَتينَة البُنْيان، وَطيدَة الأَرْكان، ثابِتَة الكِيان، مِمّا هَيَّأَها طَبيعِيًّا لتَكون لُغَة التَّواصُل بِامْتِياز في جميع المجالات؛ إلّا أنّ تفكّك الأقطار العربيّة أنتج نوعًا منَ البلبلة اللّغويّة على عدّة مستويات، ممّا يعكّر عمليّة التّواصل.
أمّا على مستوى القطريّة اللّغويّة فإنّ وصف العربيّة بالفصحى فيه حشو ركّز عليه الَاستشراق والاستفراق لإيهام النّاس بوجود أنواع مختلِفة منَ العربيّة مثل «العربيّة الحرفيّة» أوِ «الكَلاسيكيّة» و«العربيّة الحديثة» و«العربيّة المبسَّطة» و«لغة ما بين بين» و«العربيّة العامّيّة». والهدف التّشويش على النّاطقين بالعربيّة لإبعادهم عن النّصوص الشّرعيّة الّتي لا تُفهم بداهةً إلّا بلغة التّنزيل. وسقَط في هذا الفخّ كثير من النّاطقين بالعربيّة، يستوي في ذلك أعداؤها ومحبّوها. فأصبح بعض هذه «العربيّات» غير الفصيحة لغات التّخاطب، بل لغات التّواصل والتّعليم والتّدريس والمحاضرات والكتابات في عِدّة أقطار عربيّة. وقد حكى لي أحد الشّباب من الكامرون طرفة في هذا الصّدد مفادها أنّ طالبًا موفودًا من بلاده أراد الالتحاق بجامعة الأزهر. وبدأ الدّراسة بعد الَاكْتِتاب في قسم الشّريعة والقانون (!)، لكنْ سُرعان ما عاد إلى بلاده. فسُئل: «لِم عدتّ بهذه السّرعة؟» فأجاب متأسّفًا: «إن القوم لا يدرّسوننا بالعربيّة بل بلغة الفراعنة الّتي لا أفهمها إطلاقًا!» فيا لَلعجب! كيف انحطّ الفكر واللّغة في الأزهر الشّريف إلى هذا الحدّ؟!.
لكنِ اللّغة العربيّة واحدة كما نعلم ولو كرِه المستشرقون والمستفرقون. إنّها تلك اللّغة الّتي لم تكن تحمل من ثقافة سوى الشّعر الجاهليّ والأمثال العربيّة قبْل أن يُرِدِ الله لها الخلود بنزول الوحي من قرآن وسنّة (بِلِسَانٍ
عَرَبِيّٖ مُّبِينٖ ١٩٥)، [الشّعَراء: 195]. وتكفّل سبحانَه وتعالى بحفظها إذ قال: (إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ ٩)، [الحِجْر: 9]. فكثُرتِ التّأليفات في العلوم الإسلاميّة وتنوّعت حتّى صارت المكتبة العربيّة من أثرى المكتبات العالميّة إن لم تكن أثراها على الإطلاق.
وأمّا طريقة وضع المعاجم العربيّة على غِرار الطّرائق الأجنبيّة فغريبة على اللّغة العربيّة التي تعتمد الجذور مادّةَ المشتقّات جميعًا. فتفضي هذه الطّريقة إلى تشتيت الأسرة المعجميّة الواحدة، ممّا يعرقل عمليّة البحث على متناوِل المعاجم الهجائيّة، لا سيما إن كان من طلّاب علوم اللّغة العربيّة. ضِفْ إلى ذلك ما تخلّفه هذه الطريقة بطبيعتها من إسقاط الكثير من المشتقات سهوًا وعجزًا عن إحصائها وجمعها بهذه الكيفيّة. فهي لا تصلُح للّغة العربيّة لأنها وضعت في الأصل للّغات الالتِصاقيّة كالإِنْكِليزِيّة والفَرنسيّة، لا للّغات الاشتقاقيّة.
وما أصدق الشّاعر حافظ إبراهيم إذ أنشد ناطقًا بلسان لغة الضّاد:
أرى لرجال الغرب عزًّا ومنعةً
وكم عزَّ أقوام بعِزّ لغاتي
أنا البحر في أحشائه الدّرّ كامنٌ
فهل سألوا الغوّاص عن صدفاتي
وأمّا من النّاحيَة الصوتيّة، فمنَ المعلوم ضرورةً أنّ الحروف العربيّة ثمانيَةٌ وعشرون ليس غير، وهي توقيفيّة نطقًا ورسمًا. وللعربيّة طريقة خاصّة في رسم الأصوات الأجنبيّة. فقد عاملتِ العرب الأصوات في اللّغات الأجنبيّة بإخضاعها لأقرب صوت في لغتهم إن لم يكن لها ما يقابلها، كما أخضعوا الكلمات الأجنبيّة لأوزان عربيّة سواء بسواء على قاعدة «ما قيس على كلام العرب فهو منه». فاستبدلوا حرف الباء بال p الأجنبيّة (أوروبا/Europe) أو بال v (بَلَنْسَة/(Valencia. والغين بال g (البرتغال/(Portugal). والواو بال v (مناورة/(manoeuvre، وقد اشتُقّ من هذة الكلمة ألفاظ ناور، يناور، مناوِر، بحيث لا يشعر النّاطق بالعربيّة بأصلها الأجنبيّ، وهو منَ الفَرنسيّة… وهلمّ جرًّا.
على أنّ اللّغويّين قد أجمعوا على أنّ اللّغة، أيّة لغة، فيها قابليّة الإثراء على مستوى المعجم أي المفردات إذا أُخْضِع اللَّفْظ الأَجْنَبِيّ لوَزْن من أَوْزان اللُّغَة الـمُقْتَرِضَة، لكنّها مهدّدة بالخطر إن هي تأثّرت على المستويات الأخرى من صوتيّة وصّرفيّة وتركيبيّة.
ورُغم ذلك فما فتِئ تلامذة المستشرقين وأتباعهم من العرب ينطقون أصوات اللّغات الأجنبيّة كما هي ويخترعون لها «أحرفًا» جديدة في اللّغة العربيّة وكأنّ هذه الأصوات مقدّسة لديهم! وهذا العمل متعمَّد بالنّسبة إلى المستشرقين ومريديهم لمحاولة النّيل من لغة كتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم وكتب العلوم الإسلاميّة بمختلِف أنواعها؛ لكنّ الأمر مجهول عند الكثير ممّن يقلّدونهم منَ المسلمين بمن فيهم العرب.
وهذِه الظّواهر بألوانها المختلِفة مَرْفوضة أَصْلًا لإخلالها بنِظامِ اللّغة العربيّة، وبالتّالي تَجِب مُقاوَمَتُها ذوْدًا عن اللّغة العربيّة وصيانةً لها.
إن للّغة العربيّة ميزات لا وجودَ لها في غيرها من اللّغات: فلها قدرة ذاتيّة خاصّة على التّأثير والتّوسّع والانتشار. وهي جميلة، سهلة النّطق، مبنيّة على الاشتقاق الّذى لا حدودَ له في توسيع المفردات لاستيعاب المصطلحات العلميّة والتِّقَنيّة والمدنيّة والحضاريّة الجديدة. وقد حلّت بها القطريّة اللغويّة في كثير من ألفاظها وأصبحت عرضةً للعبث بمفرداتها في ترتيب المعاجم وللتّلاعب بحروفها، مثلها مثل الأمة الإسلاميّة في أوْصالها. ولا غروَ في ذلك، فالعربيّة وعاء الإسلام، وهي الآن كالأمّة، تحتاج إلى من يوحّدها ويصونها ويعيد إليها الاعتبار والمجد التّليد. ولا سبيلَ إلى ذلك بدون عودة سلطان الإسلام. فمن لهذه وتلك بدونه وهو وحدَه القادر على مزج الطّاقة العربيّة الكامِنة في اللّغة بالطّاقة الإسلاميّة الملازِمة للعقيدة والنّظام.؟!