التوجه للمؤسسات والمحاكم الدولية بيع لقضية فلسطين وعبث سياسي!

جريدة الراية

"اعتراف الاحتلال بارتكاب مجزرة مقبرة جباليا يضع المحاكم والمؤسسات الحقوقية الدولية أمام اختبار المصداقية والجدية في التعامل مع هذه الجريمة بعيداً عن ازدواجية المعايير وهذه المجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال خلال العدوان الأخير على أهلنا في غزة تضاف إلى سجله "إسرائيل" الإجرامي في المحاكم الدولية وإن عدم قيام المؤسسات الدولية القانونية والحقوقية بإجراءات العدالة لضمان عدم إفلات الجناة من العقاب يعني أن جرائم أخرى سترتكب"، هذا ما صرح به رئيس حكومة السلطة بعد حديث الصحافة العربية عن مسؤولية كيان يهود عن مجزرة جباليا التي راح ضحيتها خمسة أطفال وكان كيان يهود يتنصل منها، وعلى هذا النسق من التوجه للمؤسسات الدولية وبهذا المعنى باتت الكثير من التصريحات تتردد على لسان أزلام السلطة بعد كل عدوان ومجزرة، حتى انتقلت العدوى مؤخراً إلى بعض الفصائل العاملة على الساحة، وأصبح ذلك التوجه للمؤسسات والمحاكم الدولية بمثابة توجه سياسي ثمين عند تلك الجهات التي باتت تعول عليه بشكل فعلي في محاسبة كيان يهود ووقف جرائمه، وهذا بحاجة إلى تشريح سياسي لإدراك مدى سطحية وجهل من يعول على تلك المؤسسات ويظنها مركزاً للشفافية والنزاهة وإنصاف المظلوم.

إن المؤسسات الدولية ليست مؤسسات قائمة بحد ذاتها، فلا يوجد شيء اسمه مؤسسة دولية مستقلة بل يوجد دول مستقلة ومنها الدول الكبرى، وتلك الدول لها مؤسسات تهيمن عليها من خلال البرامج والتمويل والاحتضان وكل ما هو لازم لتتمكن تلك المؤسسات من القيام بأعمالها السياسية والثقافية في مناطق مختلفة من العالم، وأشهر تلك المنظمات الدولية هي الأمم المتحدة التي تهيمن أمريكا على معظم مؤسساتها الاقتصادية والحقوقية والسياسية والقضائية ومنها محكمة العدل الدولية، مع وجود تأثير أوروبي على تلك المؤسسات التابعة للأمم المتحدة إضافة للهيمنة على محكمة الجنايات الدولية كمؤسسة قضائية خارج إطار الأمم المتحدة وهي متخصصة في محاكمة الأفراد وليس الدول كما هو حال محكمة العدل الدولية، وبإمعان النظر في هذه الحقيقة السياسية يتبين أن كل تلك المؤسسات وخاصة القضائية - التي هي محل البحث هنا في هذه المقالة - تنطلق في نظرها للقضايا من وجهة نظر الدول المتحكمة بها وخطوطها السياسية العريضة وتفصيلاتها في القضايا المختلفة، وذلك هو المقياس والموجه الحقيقي وليس إنصاف المظلوم ومحاكمة الظالم ووقف الجريمة ومنع تكرارها، فتلك أسلحة تشهرها المحاكم ضد الأنظمة والدول والسياسيين عند الحاجة ضمن التنافس السياسي الاستعماري بين الدول الكبرى لبسط نفوذها وإزاحة خصومها.

وبالنسبة لقضية فلسطين فهذه المؤسسات كانت مواقفها منسجمة تماماً مع التوجه الغربي لتصفية القضية، فكان قرار التقسيم عام 1947، ومن ثم إضفاء الشرعية على كيان يهود عام 1949، وما لحق ذلك من توجه ثابت يقوم على حماية أمنه ووجوده وإبعاد كل خطر عنه والمساعدة على دمجه في محيطه وعدم إزعاجه إلا في إطار ما يخدم مشروع الدولتين الذي يعتبر بنظر الدول الكبرى وأمريكا صمام أمان لإطالة عمر كيان غريب غرس في جسد أمة لفظت الصليبيين من قبله بعد أن مكثوا فيها عقوداً عدة، وضمن هذا التوجه فقط تُفسر القرارات التي تدين الاستيطان في الضفة وملف اللاجئين والقدس، أي الدفع باتجاه مشروع الدولتين والنقد من بعيد للوقائع التي يفرضها كيان يهود منذ عقود لعرقلة تنفيذه، وليس كما تدعي السلطة وتلك المؤسسات إنصاف أهل فلسطين والدفاع عنهم وحماية أرضهم!

والشواهد كثيرة على أن تلك التحركات لا تعدو كونها انتقادات لا تصل لمرحلة محاكمة كيان يهود والتضييق عليه، طبعاً وفق الأساس الغربي القائم على ضرورة الحفاظ عليه كخط هجوم متقدم في قلب الأمة الإسلامية رغم مشاكساته وتهربه من مشروع الدولتين، ومن تلك الشواهد ما عرف بتقرير غولدستون الشهير الذي بدأ بمصادقة الجمعية العامة للأمم المتحدة على التقرير، وانتهى باعتذار غولدستون بنفسه عن تقريره، وما بين المصادقة عام 2009 والاعتذار عام 2011 لم يلمس أثر للتقرير على الأرض، وكذا حال كل التقارير بعد كل عدوان؛ لجنة وصفحات ورف وأرشيف ثم نسيان!!

ذلك على فرض أنه يصح أن يقال عن تلك التقارير بأنها تحقيقات، وهي في الحقيقة تدوين لبعض مشاهد الجريمة الواضحة والمصورة والموثقة، فلا يوجد شيء مجهول ليكون هنالك تحقيق. وهذا يدفع لأمر مهم وهو لماذا هذه المغالطة إذا؟ والجواب أنها لإيهام المسلمين أن الإنصاف يكون عند الغرب ومؤسساته، إضافة إلى حفظ ماء الوجه للدول الكبرى أمام الرأي العام العالمي عندما يضج على المجازر والتدمير الذي يحصل بغطاء منها، وكذلك الضغط المخفف على كيان يهود في إطار مشروع الدولتين، وفي المقابل تقزيم للجريمة وإدانة بعض مشاهدها وإقرار الأخرى مثل التركيز على المدنيين وإباحة قتل كل من يواجه كيان يهود ووصفه بالإرهابي، والأخطر من ذلك المساواة بين الضحية والجلاد والمطالبة عقب كل تحقيق بوقف الجرائم بحق المدنيين من الطرفين وتعمّد استخدام الألفاظ العامة التي تدين مختلف الأطراف وتساوي بين كيان محتل سفاح وشعب مستضعف يقصف بالطائرات والدبابات وأحدث أنواع الأسلحة.

وفي الختام إن قضية فلسطين هي قضية أرض إسلامية محتلة بحاجة إلى قوة لتحررها وليس إلى محاكم ومؤسسات دولية استعمارية تتدحرج على أعتابها، والجرائم في الأرض المباركة بحاجة إلى وقفها باقتلاع من يرتكبها باستمرار، لا إلى لجان ومبعوثين ومحققين للتدوين والأرشفة العبثية في أروقة مجلس حقوق الإنسان والمحاكم الدولية، والقوة اللازمة للتحرير تتجسد في أمة الإسلام وجيوشها القادرة على ذلك، فكان الوعي السياسي بالتوجه إلى العلاج وطلبه، وكان الانتحار السياسي بالتوجه للدول الكبرى الاستعمارية وأدواتها السياسية المسماة مؤسسات دولية، وما بين العلاج والسم موت وحياة ونصر وهزيمة، قال تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ﴾.

بقلم: د. إبراهيم التميمي

عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)