امة الله
Nov 13 2011, 10:00 AM
الحلقة الثانية
مع أن الناس قد أصبحوا واعين لظاهرة ما أسموه بالعولمة في الربع الأخير من القرن العشرين، إلا أن ذلك كان نتيجة السرعة التي طرأت على عملية وديناميكية العولمة، والتي تسارعت نتيجة تسارع الاكتشافات التكنولوجية في الفضاء، والاتصالات، وتقنية المعلومات. ولقد كانت عملية العولمة بطيئة، تكاد تكون بشكل غير محسوس، إلا أن تسارع الأحداث والاكتشافات قد جعلت ملاحظتها أمراً لا يمكن تجنب رؤيته أو ملاحظة تأثيراته، لأنها قد أصابت دروب الحياة كافة. وما ندعيه هنا أن عملية العولمة كانت عملية تتطور ببطء على مدى التاريخ إلا أنها أخذت وتيرة ثورية في العقود القليلة الماضية.
إن عملية العولمة هي تطور طبيعي، اللهم إلا أن الاختلاف هو في النظم التي تتحكم بها. فهي مثل جهاز الكمبيوتر، المهم ما هو النظام Soft Ware الذي يتم تشغيله على هذا الجهاز. وكما يقال عن الكمبيوتر Garbage in، Garbage out ، أي إذا كانت المدخلات خاطئة، فكذلك ستكون النتائج. وإن مدخلات عولمة الرأسمالية التي تعتمد على الجشع والكذب والمادية المجردة والمضاربات والحروب لا يمكن لمخرجاتها إلا أن تكون ما نرى عالمنا عليه أيامنا هذه.
قبل أكثر من مائة وخمسين سنة، وتحديداً في سنة 1848 نظّر كارل ماركس أن ضرورات الإنتاج الرأسمالي ستدفع بالرأسماليين للذهاب إلى كل مكان، وأن يؤسسوا التجارة في كل مكان، ما حدا ب Paul Lewis بول لويس أن يكتب في ال”نيويورك تايمز” بتاريخ 27 يونيو/ حزيران 1998 “عندما يزور القراء (المانيفستو الشيوعي) في عامه الخامس بعد المائة، يفاجأ القراء سواءٌ كانت ميولهم نحو اليمين أم اليسار بدقة تعريف كارل ماركس للاقتصاد العالمي هذه الأيام”. يبدو أن ماركس عرف الداء لكنه لم يعرف الدواء.
كان الانتقال من الإقطاعية إلى الرأسمالية في أوروبا ناتجاً عن تغيرات إيديولوجية وتكنولوجية. كانت الثورة البروتستانتية، أو ما أسماه البعض “عصر التنوير” هو الغطاء الإيديولوجي الذي حلل الربا، والذي حرمته الشرائع الدينية كافة من الإسلام إلى المسيحية وحتى اليهودية، التي سمحت به فقط على الغوييم من غير اليهود وحرمتهُ بين اليهود أنفسهم.
أما الاختراعات التكنولوجية فكانت استعمال البخار في الصناعة، والقطار، ومحرك الاحتراق الداخلي، والكهرباء، والطاقة النووية وأخيراً الذكاء الاصطناعي والكمبيوتر. نتج عن هذه الاختراعات تطوير الأسواق من محلية إلى إقليمية إلى قومية ثم إلى عالمية، فتم تركيب مبادئ الرأسمالية على أدوات العولمة هذه، مما نتج عن ذلك ما أسلفنا من نتائج هي من طبيعة ذلك النظام من الإنتاج الكمي، ومن حروب واضطرابات ومصائب، فتقدم الوسائل وقوتها جعل من كل حرب أشرس مما قبلها، ومن كل كارثة اقتصادية أشد ضراوة وقسوة من سابقاتها، ومع أن كلمات العولمة قد كثر استعمالها مؤخراً إلا أنها كانت تتطور مع الزمن ابتداء من طريق الحرير وحتى اليوم. لقد ترجم المسلمون علوم وفلسفة اليونان والرومان وأضافوا عليها كعلم الجبر، بل اختراع “الصفر”، ومن دونه فإن علوم الكمبيوتر والتي تعتمد عليه ما كان لها أن تنطلق وتطلق عصر معلوماتنا هذا. كما ترجم الأوروبيون أعمال المسلمين العلمية والأدبية وأضافوا عليها.
كانت سرعة الحركة والانتقال وسرعة تطور العولمة تتطوران تطوراً طردياً. فحتى القرن التاسع عشر كان الحصان هو السرعة القصوى للانتقال، إلى أن جاء القطار فأصبحت سرعته تصل إلى 150 كيلومتراً في الساعة، ثم السيارات فالطائرات والصواريخ. وكان إنتاج النفط بكميات كبيرة وبوسائل حديثة سنة 1859 نقطة حاسمة، بحيث يمكن الادعاء أننا في آخر سنوات القرن التاسع عشر وحتى اليوم نعيش ما يمكن تسميته عصر النفط، وبعد انطلاق الثورة الصناعية أصبح من يسميهم المؤرخون الأمريكيون أنفسهم بالبارونات اللصوص، خلفاً لبارونات الإقطاع، وأصبح هؤلاء هم عماد النظام الرأسمالي الصناعي، فالرأسمالية قد اشتقت اسمها من الرأسمال وسُخر النظام كله لخدمة رأس المال وأصحابه.
تجارة حرة بقوة السلاح
بينما كان التنافس بين الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية يزداد حدة، أبحر نابليون على رأس 40000 جندي تحملهم 300 سفينة لغزو مصر. واحتل القاهرة في 25 يوليو/ تموز 1798 بعد معارك غير ذي شأن. وتماماً كما دخل الأمريكان بغداد في 9 ابريل/ نيسان ،2003 أصاب المماليك وجيشهم وأهل القاهرة “الصدمة والرعب”، وهذا كان اسم عملية احتلال العراق الأمريكية لكنها كانت موديل ،1798 في البداية نزل الجنود الفرنسيون إلى الشوارع في القاهرة دون سلاحهم، وكذلك المارينز الأمريكان في بغداد، فالناس كانوا في حالة ذهول! ولقد اشترى الجنود الفرنسيون كل شيء بأعلى الأسعار ليجذبوا السكان إلى جانبهم، تماماً كما فعل الأمريكيون عند غزوهم بغداد. ولقد أحضر نابليون معه 36 عالماً ليتفهم عقلية المصريين وثقافتهم ولتغيير القانون من الشريعة إلى قانون علماني، وهو هدف واظب عليه الغرب إلى يومنا هذا. وكما أعلن رامسفيلد وزير دفاع الغزو الأمريكي بأن جنوده قد جاءوا ليحرروا العراق، كذلك أعلن نابليون أنه جاء وأحضر معه “التنوير” والتحرير. وكما حكم بريمر أول مندوب سام أمريكي في العراق بمراسيم تحمل قوة القانون، كان هذا ما فعله أيضاً نابليون قبله بأكثر من مائتي سنة.
عندما دخل نابليون القاهرة جمع كبار أهل القاهرة وأبلغهم بأنه يريد أن يحكم بواسطة عشرة ينتقيهم منهم، وهكذا أصبح لنابليون ما يعادل CPA أو السلطة المركزية المؤقتة التي أنشأها الأمريكيون بعد الاحتلال. ولقد جعل نابليون من القصر الجديد لحاكم مصر السابق محمد بيه الألفي قصراً لإدارته، وهكذا أصبح لنابليون “منطقته الخضراء”، كما جعل بريمر من منطقة القصر الجمهوري لنظام صدام حسين منطقته الخضراء.
وعندما أفاق المصريون، كما أفاق العراقيون من صدمتهم، لم يعجبهم الاحتلال.. فقاموا بثورة مسلحة أسماها نابليون، كما سماها الأمريكان تمرداً! ولقد كان رد فعل نابليون بأن وجه مدافعه ضد الأزهر كونه مركزاً للمقاومة، وعلى غرار جورج بوش كان نابليون مصمماً على الاستمرار في سياسته، فبدأ بتغيير جنرال وراء جنرال، فأرسل الجنرال دوبوي General Dupuy لوقف “التمرد” حيث تطورت المظاهرات إلى ثورة في أكتوبر/ تشرين الأول ،1798 ولقد قتل الثوار الجنرال دوبوي مع العديد من جنوده، فرأى نابليون أن يتخذ أشد أنواع العقاب، حيث اعتقل رؤوس المقاومة، بمن فيهم رئيس جمعية المكفوفين والذي تم إعدامه مع أربعة آخرين. صعد الفرنسيون من قمعهم. دسوا السم للكلاب لأنها كانت تعوي وتنذر المقاومين قبل وصول الجنود الفرنسيين إلى معاقلهم، كما دمروا أجزاء من المدينة بأكملها بما فيها المساجد والمنازل والقصور. لا بد أن هذه كانت “فلوجة” نابليون.
لاحظ نابليون أن المماليك والعثمانيين والإنجليز قد كونوا محوراً، لابد أنه كان محور شر، فرأى أن يهرب إلى الأمام فغزا فلسطين، لكنه هُزم في عكا، وهكذا وفي جنح الظلام سافر سراً إلى فرنسا في 22 أغسطس/ آب ،1799 وكما كافأ الأمريكيون جورج بوش على خيبته في العراق بولاية ثانية تم تسمية نابليون بعد رجوعه “القنصل الأول”. ترك نابليون الجنرال كليبر في القاهرة يتدبر الأمر. لكنه قُتل على يد أحد الثوار المسلمين غير المصريين ويدعى سليمان أليبين (Suleiman Alepin) هل هذا أحد الأصوليين أم إنه من القاعدة؟ تم تنفيذ حكم الإعدام بسليمان واثنين آخرين معه، وتم تعيين الجنرال مينو Menou والذي اعتنق الإسلام فيما بعد، حيث أصبح اسمه الجنرال عبدالله جاك مينو، وتزوج من مصرية وأنجب ولداً أسماه سليمان. لكن “محور الشر” الثلاثي من المماليك والعثمانيين والإنجليز قد انتصر أخيراً ورجعت مصر ولاية تابعة للسلطان العثماني سنة 1805.
عمل محمد علي قائداً للجيوش العثمانية وعمل بتوافق مع الإنجليز. ويبدو أن تفاهماً ضمنياً مكنه من المحافظة على مركزه لاحقاً كحاكم ولاية مصر العثمانية. بقي النفوذ البريطاني مؤثراً في مصر إبان فترة حكم محمد علي، إلا أنه حاد عن الطريق كما سنرى فتمت إزاحته.
عندما احتل نابليون مصر، كانت مصر على مفترق طرق استراتيجي. ومع أنه لم يُفصح عن أن هدفه الحقيقي كان الوصول إلى الهند درة التاج البريطاني، إلا أن ذلك كان مفهوماً ضمناً، كما لم يعلن جورج بوش عن هدفه الحقيقي وهو السيطرة على منابع النفط وإن كان أمراً مفروغاً منه عرفه القاصي والداني.
حكم محمد علي مصر 43 سنة (1805 1848) ولعل التدخل السافر للغرب في شؤون العالم الإسلامي كان سبباً رئيسياً للإبقاء على التخلف بهذه الطريقة أو تلك، وضرب كل حركات التحرر أو التقدم الاقتصادي أو الاجتماعي أو العسكري قبل أن تصبح خطراً على مصالح الغرب، فبعد أن تربع محمد علي على كرسي الحكم وقيامه بمركزة السلطة بين يديه، قام بثورة صناعية وزراعية طموحة. وفي الشأن الزراعي، فقد ضاعف المساحات المزروعة وكذلك نوّع المزروعات للأنواع القابلة للتصدير، فأنشأ نظاماً زراعياً مركزياً بحيث حدد مساحة ما يزرعه المزارعون ونوع المحصول لزراعتهم، واشترى محصولهم والذي كان يباع بربح، واستعمل الربح في بناء المشاريع العامة وقنوات الري، والطرق والسدود، بالإضافة إلى تمويل المشاريع الصناعية وتقوية الجيش. وتم بناء مصانع النسيج والسكر والزجاج وتم شراء الماكينات من الغرب والاستعانة بخبرائهم. وكما كان يفعل الاوروبيون فلقد تم حماية الصناعة المصرية خصوصاً في سنوات تكوينها الأولى، مما حسّن من ميزانه التجاري باستمرار. وكون جيشاً قوياً وبحرية قوية، وكانا تحت تصرف السلطان العثماني عند الطلب.
أرسل محمد علي جيوشه إلى الجزيرة العربية، كما أرسل جيوشه وأساطيله لمساعدة السلطان في إخماد الثورة اليونانية. أصاب الأوروبيون القلق من تنامي قوة محمد علي البرية والبحرية، فقام أسطول من تحالف القوى الأوروبية بإغراق أسطول محمد علي في نفارينو Navarino في أكتوبر/ تشرين الأول 24 سنة 1828 جنوب شواطئ اليونان.
بعد أن أثبت قدراته العسكرية شجعت بعض القوى الأوروبية محمد علي على احتلال عاصمة الخلافة العثمانية، وبعد احتلال بلاد الشام بواسطة إبراهيم باشا، استمر نحو الاستانة حيث دحر الجيش العثماني ولم يوقفه سوى القوى الأوروبية التي أنذرت والده بالتوقف وإلا.. محمد علي الألباني الذي لم يتكلم العربية بطلاقة، وابنه إبراهيم (بالتبني من زوجة يونانية) أراد إنشاء دولة تقوم على العروبة والقومية العربية، وتنفصل عن الدولة الإسلامية العثمانية، والتي كانت في حالة وهن وضعف بل “مشروع إمبراطورية جاهزة للسقوط” متى سمحت الجيوبوليتكا بين القوى الأوروبية لذلك. رأى الغرب أن أفضل طريقة لحد قوة محمد علي هي تقنين مصادره المالية. فكما أجبرت بريطانيا الدولة العثمانية على توقيع معاهدة التجارة الحرة بمعاهدة بالتاليمان Balta Liman سنة 1836 بشروط حابت بريطانيا، فلقد طُلب من محمد علي أن يفعل الشيء نفسه. لكنه لم يستجب حيث ان مثل ذلك سيحرمه من عوائد الجمارك، كما سيعرض صناعته وزراعته إلى منافسة غير متكافئة مع أوروبا. عندها هاجمته بريطانيا بالتعاون مع العثمانيين في بلاد الشام وتم إخراجه منها بعد حكم دام عقداً من الزمن، بعد أن قصفت البحرية البريطانية قوات محمد علي في بيروت في سبتمبر/ أيلول ،1840 وفي عكا في أكتوبر، وأخيراً رست قطع بحرية بريطانية في ميناء الاسكندرية وتم إجبار محمد علي على توقيع اتفاقية التجارة الحرة سنة 1841. وبذلك أجبر محمد علي على التخلي عن سائر سياساته الاقتصادية، وأن يخفض الضرائب والجمارك على المنتوجات الأجنبية مما أدى إلى اندثار الصناعة المصرية التي بناها خلال عشرات السنين. وكذلك تم وضع حدود لإعداد وعدة جيشه. وكما كان متوقعاً، فلقد انخفضت إيرادات الدولة ب 80% بعد سنة من هذه الاتفاقية وبدأ الدين يتراكم على مصر، مما سبب انهياراً عصبياً لمحمد علي. وبقيت صحته تتدهور إلى أن تم عزله في يوليو سنة ،1848 كما توفي ابنه إبراهيم في نوفمبر/ تشرين الثاني من السنة نفسها. وبقي الدين على مصر بازدياد بالرغم من وجود المستشارين الأجانب حتى وصل إلى مائة مليون جنيه سنة ،1879 الأمر الذي أدى إلى احتلال مصر تحت دعوى إدارة الاقتصاد المصري لسداد ديونه، الأمر الذي يقوم به هذه الأيام صندوق النقد الدولي، فبعد إغراق البلدان بالديون، يأتي صندوق النقد الدولي بشروطه Conditionalities وخبرائه ليضعوا الشروط وليقبعوا في دوائر الدولة لإدارة الاقتصاد والديون. وكما أن البنك الدولي يُشجع الدول النامية على بناء المشاريع من موانئ ومحطات كهرباء، ثم يأتي الوقت الذي تباع هذه المنشآت نفسها بأبخس الأسعار لسداد الديون تحت برامج الخصخصة، كان الأمر نفسه يتم في السابق، فبعد أن استدانت مصر الملايين لمشاريعها ومنها فتح قناة السويس، اضطرت الحكومة المصرية أن تبيع أسهمها في القناة لقاء 4 ملايين جنيه فقط، أي 4% من حجم ديونها. استدانت الإمبراطورية البريطانية هذه الملايين الأربعة من عائلة المرابين العالميين آل روتشايلد، وكان المستدين رئيس الوزراء البريطاني دزرائيلي.
الاقتصاد الجديد.. قديم
لقد كان الاقتصاد الجديد إحدى أكبر أكاذيب القرن العشرين، فهو لم يكن سوى رخصة “جديدة” لوول ستريت لتبرير سرقاتها. ولم يكن هناك أي شيء جديد في هذا الاقتصاد الجديد، سوى أنه أصبح أكثر شدّة في مضارباته، وزادت طفيليته بشكل أكبر، حيث بقي جوهر النظام الاقتصادي على حاله.
لقد تكيف هذا الاقتصاد الجديد القديم مع وسائل جديدة تعمل على تعاظم ثروات ومنافع البارونات اللصوص. وقد كانت الحواسيب والإنترنت اختراعات تقنية ثورية في النصف الأخير من القرن العشرين. ولكن هذه الصفات تنطبق أيضاً على الاختراعات في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مثل الكهرباء والبترول التي كانت اختراعات ثورية أيضاً، ولكن “عبادة الجديد” هي تقليد أمريكي قديم. فأمريكا هي العالم الجديد، والأمة الجديدة، والقارة الجديدة. أمّا الاقتصاد الجديد فلم يكن سوى إحدى صرعات أصحاب وول ستريت، والذين يستخدمون طرقاً ووسائل جديدة وتقنيات الكمبيوتر، وتسخير علماء الصواريخ لتعظيم نهبهم للاقتصاد المنتج.
لقد سُئل روبرت صامويلسون (Robert J. Samuelson) في تعليق نشر في مجلة نيوزويك في 17/4/2001: “ما هو الاقتصاد الجديد؟ إنه يبدو في معظمه حالة ذهنية، وقناعة، من خلال معجزات التقنية، بأن الاقتصاد قد دخل مرحلة النعيم الدائم الذي يعج بوعود الخير ويخلو من أية مخاطر. وقد قامت هذه الثقة المفرطة بتغيير النمط السلوكي للاقتصاد، مسببة ازدهاراً في سوق الأوراق المالية وفورة في الإنفاق الاستهلاكي. ويبدو المستقبل غاية في الإشراق، حتى أن الناس باتوا لا يخشون أن ينفقوا بسخاء، وقد أظهر انتعاش السوق المالي الأسبوع المنصرم هذه الثقة بصورة واضحة. ولكن هذا الوضع ينطوي كذلك على خطر الهشاشة. فلو هزّ أي شيء هذه الثقة المفرطة، التي وصلت حدودها القصوى، فإن الأسهم ومبيعات التجزئة قد تنهار أو تنخفض، وبذلك فإن الاقتصاد الجديد سيبدو وكأنه الاقتصاد القديم. “ لقد قام مالكو وول ستريت ووسائل الإعلام الناطقة بلسانها بدمج قوتهم المالية مع قوتهم المعلوماتية، ليخلقوا رأسمالية معلومالية أسموها “الاقتصاد الجديد”.
لقد أثبت التاريخ أن مالكي وول ستريت يعتبرون أن القديم جديد والجديد قديم، فاللعبة هي ذاتها دائماً. ولو قمنا بتغيير التاريخ وبعض الأسماء، فلن يعرف أحد ما إذا كانت عملية الاحتيال قد تمت في هذا القرن أو في القرن الذي سبقه. وحتى عمليات الاحتيال والخداع هي ذاتها دائماً. وهذا ما يجعل الانحلال الأخلاقي جزءاً لا يتجزأ، إلى جانب الفضائح، من ثقافة وممارسات وول ستريت وبارونات الأموال اللصوص. وقد كتب غاري وايز (Gary Weiss) قائلاً: “إن فضائح السماسرة الماليين لا تنفك تتكرر مرة تلو الأخرى مع تغير أسماء الأشخاص فقط دون المساس بقانون اللعبة.. إن الفضائح المتكررة هي جزء من نسيج وول ستريت ونتاج لأخلاقياته والقوانين المطاطة التي تحكم عملياته، والتي تبقى دونما رقابة لسنوات طويلة.
الترويج لاحتلال العراق
وفي الوقت نفسه، نجد أن رئيساً أمريكياً هو فرانكلين. د. روزفلت كان السباق في انتقاد النظام النازي لانتهاجه سياسة الحروب الاستباقية، وذلك في خطابه الشهير في أكتوبر/ تشرين الأول ،1937 الذي قال فيه “إن الحروب النازية الاستباقية من شأنها أن تخلق عصراً من الرعب وغياب القانون” من خلال التدخلات غير المبررة في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، أو الإقدام على غزو أراض أجنبية”. بالإضافة إلى ذلك، فقد نقل عن المدعي العام الأمريكي في محكمة جرائم الحرب في نوريمبيرغ القول بهذا الشأن: “موقفنا هو أياً كانت المظالم التي تعاني منها دولة ما ومهما بلغ حجم اعتراضنا على واقع معين لديها، فإن الحروب العدوانية تظل وسيلة غير مشروعة لمعالجة هذه المظالم أو العمل على تغيير مثل هذه الظروف”.
في التسعينات شهدت الولايات المتحدة أكبر فقاعة مضاربة في تاريخ السوق المالي الأمريكي. وفي بداية القرن الجديد، ما بين 10 مارس/ اذار 2000 ونهاية الربع الأول من عام ،2001 حيث تهاوت قيمة الأسهم في ناسداك من 7،6 تريليون دولار إلى 3،3 تريليون. وفي ذلك قال ستيف جوبس مؤسس شركة أبل للكمبيوتر أمام المحللين، إنه يعتقد بأن الاقتصاد الأمريكي يعاني من حالة انصهار.
وطبقاً لمفهوم النظام الرأسمالي الأمريكي، فإنه عندما يعاني اقتصاد ما من مصاعب فإن الحرب (سواء جاءت بفعل تخطيط مسبق أو حدثت بشكل عرضي) تساعد دائما على الخروج من الأزمة، خاصة كما اتضح من مشروع القرن الأمريكي الجديد وأن المسرح قد أعد بالفعل للهيمنة الأمريكية على العالم. فمن جانبها عملت “المؤسسة الأمريكية” على إيصال “رئيس حرب” إلى البيت الأبيض، وقدمت له الدعم المطلوب لتجني الشركات النفطية وشركات الصناعات والخدمات العسكرية من ورائه عظيم المكاسب. وفوق ذلك فإن العديد من رموز هذه الشركات ظهروا فجأة في البيت الأبيض، بدءاً من نائب الرئيس ديك تشيني، الذي كان قبلها مباشرة الرئيس التنفيذي لشركة هالبيرتون لخدمات النفط، وكونداليزا رايس التي شغلت منصباً رفيعاً في شركة شيفرون تكسيكو النفطية قبل أن تصبح على رأس مجلس الأمن القومي. وحتى في الخارج نجد بأن الرئيس الأفغاني المعين من قبل الأمريكيين حميد قرضاي والسفير الأمريكي في كابول بعد الإطاحة بطالبان، كانا يعملان مستشارين بشركة أونوكال النفطية (Unicol).
وخلال فترة الإعداد لغزو العراق شكل روبرت جاكسون، أحد كبار المسؤولين في شركة لوكهيد مارتن، ما عرف بلجنة تحرير العراق. وبرز من بين المؤسسين عدد من الأسماء المتنفذة في المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، وضمت اللجنة كذلك وزير الخارجية السابق جورج شولتز (يعمل حالياً مع شركة بيكتل)، بالإضافة إلى عدد من رموز المحافظين الجدد.
وعليه فلا عجب أن تخرج الشركات المذكورة بحصة الأسد من مقاولات إعادة إعمار العراق، خاصة وأن عقيدة التجارة الحرة والعادلة تختفي عندما يتعلق الأمر بتعرض المصالح للتجمع الصناعي العسكري الأمريكي للخطر. فبعد الغزو وزعت سلطات الاحتلال الأمريكي الغنائم على الشركات النفطية، حيث أوكلت لشركة شيفرون تكساكو مسؤولية بيع النفط العراقي، بينما منحت شركتي بيكتل وهاليبرتون عقوداً إنشائية سخية، وهذه مجرد قمة الجبل الجليدي الهائل من المكاسب التي حظيت بها الشركات الأمريكية المقربة من إدارة بوش. وطبقاً لصحيفة “الفايننشال تايمز”، فإنه بعد عام واحد من غزو العراق، سجلت عائدات هاليبرتون ارتفاعا بنسبة 80%، بينما قفزت عائدات بيكتل بنسبة 135%. أما شيفرون تيكساكو فحققت زيادة في الأرباح بنسبة 90%، وذلك خلال الفترة من الربع الأول لعام 2003 إلى الربع الأول من العام التالي. وفي الوقت ذاته نجد أن أسهم لوكهيد مارتن لصناعة الأسلحة سجلت خلال الفترة من 2000-2004 (الفترة الأولى من رئاسة بوش) ارتفاعا بنسبة 300%. وطبقاً للسناتور رون وايدن فإن “عملية منح عقود إعمار العراق كانت أقرب إلى حالة الفوضى في مدن الكاوبوي الأمريكي قبل ظهور أمناء شرطة الدولة”.
يتّبع ان شاء الله[font="Arial"][/font]
امة الله
Nov 16 2011, 04:28 PM
الحلقة الثالثة:
في الرأسمالية.. العبودية أساس الملك
يقول البروفيسور رونالد ديفيسRonald Davis من جامعة ولاية كاليفورنيا في نورث ريدج North Ridge "لا نبالغ حيث نقول إن الأرباح التي نتجت عن نظام وتجارة الرقيق من 1600 وحتى 1860 قد أسهمت إلى حد كبير في بروز الغرب في غرب أوروبا والولايات المتحدة كالقوى المهيمنة على العالم" .
ويمكن أن نضيف إلى ما كتبه ديفس بأن التطهير العرقي والحروب كالدعامتين الأخيرتين للرأسمالية الغربية التي انطلقت بعد أن حلل "التنويريون" بعد الثورة البروتستانتية الربا، وانطلق بارونات المال بعد حصولهم على هذا التغيير الايديولوجي إلى مزج قوة المال بتغير تكنولوجي انطلق بالرأسمالية إلى ما هي عليه اليوم .
قال ماتير روتشايلد مؤسس العائلة "دعني أسيطر على رأس المال لأي أمة ولا يهمني من الذي سيحكمها بعد ذلك" .
بعد وصول كولومبوس إلى ما ظنه الهند، كتب لأصحاب حملته بإسبانيا "سأرسل لكم ما تحتاجونه من ذهب، وكل ما تتمنونه من عبيد" . وأضاف: "فلينصر الرب اولئك الذين يتبعون طريقه!"، ومن مقره في ما يعرف اليوم بهايتي Haiti، قام كولومبوس بحملة اصطياد للسكان الأصليين، واحتجز 1500 منهم سنة ،1495 واختار منهم 500 من الأقوى بنية حيث حمّلهم بالسفن إلى إسبانيا . مات 200 منهم في الطريق ما جعل تكلفة الشحن باهظة فتفرغ لمحاولة تعدين الذهب . أمر بكل من هو فوق الرابعة عشرة من السكان الأصليين بجمع كمية محددة من الذهب خلال 3 شهور . أعطى الذين نجحوا في جمع الذهب قطعة من النحاس يعلقونها على صدورهم، أما أولئك الذين لم ينجحوا فتم تقطيع أيديهم لينزفوا حتى الموت . وحسب ما كتبه الراهبBartolome dela casa برتالومي دي لاكازا، الذي عايش تلك الحقبة، فيقول إنه بين 1494 و1508 فقد مات أكثر من ثلاثة ملايين من السكان الأصليين الذين قضوا نتيجة الحروب أو العبودية أو الأشغال الشاقة . وأضاف الراهب "من يصدق هذا في المستقبل؟ فأنا الذي عايشته أكاد لا أصدقه" . وكتب المؤرخ في جامعة هارفارد ساميول ديلوت موريسون: "إن السياسة التي بدأها كولومبوس واتبعها الذين خلفوه، قد أدت إلى إبادة جماعية" .
مؤسسة العبودية
مؤسسات العبودية كانت عماد الاقتصاد الأمريكي حتى نهاية الحرب الأهلية الأمريكية ،1865 أي لأكثر من 300 سنة . في العقود الأولى من القرن السابع عشر كان المستعمرون الأمريكيون البيض يستعبدون المواطنين الذين أسموهم الهنود الحمر . وعندما بدأت زراعة القطن بالانتشار السريع منذ 1670 أصبحت أعداد هؤلاء لا تكفي، فانطلقت تجارة العبيد الافريقيين على قدم وساق، كما تم استعباد الرقيق الأبيض ممن لم يستطيعوا سداد ديونهم، فأُرسلوا إلى أمريكا كعبيد لفترة سداد هذا الدين . وكان معدل وفيات العبيد أثناء نقلهم بالبحر لا يقل عن الثلث وإن كانت تصل أحياناً إلى النصف . كان يقذف في البحر المرضى، أما من يصل إلى بر أمريكا، فيباع ويشترى ويصبح ملكاً لصاحبه .
حتى سنة 1800 وصل من عاش من العبيد إلى أمريكا بين 10 - 15 مليون من أصل 50 مليوناً تم نقلهم خلال القرون الماضية مات في الطريق أكثرهم . كان من أُسموا آباء الثورة الأمريكية للاستقلال من أصحاب المزارع وملاك العبيد مثل جورج واشنطن، وتوماس جيفرسون وجيمس ماديسون .
حتى بعد الاستقلال ومناقشة حق الانتخاب، حُرم العبيد من التصويت، ولكن حيث إن غالبيتهم كان في الولايات الجنوبية، أخذ أهل الجنوب بتعدادهم حين احتساب عدد السكان لأمور تقرير عدد أعضاء الكونغرس والذي يخضع لكثافة السكان، عندها قرر المؤتمرون رسمياً اعتبار العبد ثلاثة أخماس رجل . وأخذ أهل الجنوب الحق بمطاردة الهاربين منهم إلى أي مكان لإعادتهم إلى مزارعهم .
أصحاب العبيد لم يعترفوا، وكذلك ولاياتهم بشمول مؤسسات الزواج على العبيد . كان يتم بيع أبنائهم إلى آخرين كما كانوا يُشغلونهم في حقول الزراعة من الثانية عشرة من أعمارهم . ولعل من الطريف أن نبين أنه حتى يومنا هذا، فإن العنصر الإنساني يشار إليه في علم الإدارة بالأصول البشرية، حيث تعرف الإدارة بأنها الاستغلال الأمثل للموارد والأصول (assets) البشرية والمادية .
لم يكن هذا هو حال المستعمرات الأمريكية، بل كان هو حال الحضارة الغربية، فثروات أوروبا الغربية بأكملها قامت على العبودية والاستعمار وعبودية شعوب بأكملها، مما يفقدها أي مبرر أخلاقي بالحديث عن حقوق الإنسان، في وقت كانت حضارتنا تقول إن الناس سواسية، ولا فرق لعربي على أعجمي أو قرشي على حبشي إلاّ بالتقوى قبلهم بقرون عديدة .
إذا كان العدل أساس الملك في الديانات السماوية فالعبودية هي أساس الملك في الرأسمالية .
الثورة الأمريكية: أسبابها وقادتها
في سنة ،1676 أي قبل مائة سنة من الثورة الأمريكية سنة ،1776 ثار الفقراء من البيض والسود وحرقوا الأخضر واليابس في عاصمة فيرجينيا واسمها جيمس تاون Jamestown، وهرب حاكم فيرجينيا من المدينة . كان كثير من أصحاب المزارع الكبرى أمثال جورج واشنطن وتوماس جيفرسون في تلك السنوات المائة قبل الثورة الأمريكية هم من الولايات الجنوبية وفيرجينيا . قامت 18 ثورة على الحكومة كما ثار العبيد من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال .
المؤرخ الأمريكي الشهير بيردBeard قال إن طبقة الأغنياء أصبحت بحاجة إلى حكومة قوية تصون مصالحهم الخاصة ليتمكنوا من السيطرة عليها وإصدار القوانين والتشريعات التي تصون مصالحهم، ولحماية منتوجاتهم الزراعية . كما أن بارونات المال قد أصابهم الاستياء نتيجة قوانين لم تعد تسمح لبنوكهم بإصدارات مالية . أحد من أصبحوا قادة الثورة بنجامين فرانكلين Benjamin Franklin، والذي كان متعهداً لطباعة الأوراق النقدية لأحد أكبر بنوك ذلك الزمان، ذهب إلى بريطانيا في محاولة لإلغاء قانون 1764 الذي أصدره البرلمان البريطاني الذي منع الإصدارات من قبل بنوك المستعمرات الأمريكية، ولكن دون طائل . طبقة التجار استاءت من قرار ملكي يحصر بيع الشاي في شركة الهند الشرقية البريطانية، والتي قامت بتعيين وكلاء لها للبيع المباشر، ما أثار حفيظة التجار وكان سبباً مباشراً للانتفاضة، حيث حرّض التجار والممولون عموم الشعب ضد الإنجليز، وذهب بعضهم ليقذف شاي شركة الهند الشرقية في بوسطن بعرض البحر . المؤرخ الأمريكي المعروف هوارد زينHoward Zinn يقول:
"حوالي 1776 اكتشف الأثرياء في مستعمرات بريطانيا في شمال أمريكا اكتشافاً مهماً بأنه إذا ما حققوا الاستقلال لمستعمراتهم، وأوجدوا أمة جديدة يسمونها الولايات المتحدة، فإنهم سيستولون على الأراضي، وسوف يحلون محل من تحابيهم بريطانيا في مستعمراتهم، كما يمكنهم كبح جماح الثورات المتكررة في المستعمرات وتأمين مصالحهم عبر الاستيلاء على قيادة هذه الأمة الجديدة"، قامت الثورة على جبل من الديون أثلجت صدور بارونات المال العالمي والمحلي . وتمت طباعة عملة محلية دونما غطاء أسموها بالكونتيننتالContinental فقدت قيمتها، بحيث أصبحت تساوي واحداً على الألف من قيمتها السابقة، وبحيث أصبح مثلاً للذي لا يساوي شيئاً إذ قيل عنه "لا يساوي كونتنينتال" .
كان عدد سكان المستعمرات الثلاث عشرة حوالي مليونين، نصفهم من النساء ممن ليس لهم حق بالانتخابات، وكذلك العبيد وسكان البلاد الأصليون من الهنود الحمر، وكذلك الفقراء من البيض، حيث كان حق الانتخاب مقروناً بالملكية . أصبح من لهم حق الانتخاب بضع مئات من الألوف لم يمارس أكثرهم حقهم في الانتخاب على كل حال .
يقول المؤرخ بيرد Beard: إن الثوار المؤسسين كتبوا دستوراً حافظ على مصالح طبقتهم وليس على مصالحهم فقط . ومن الطريف أن جورج واشنطن قد تم تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة في وول ستريت، حيث حلف اليمين أمام رئيس المحفل الماسوني في نيويورك، وكان أكثر زملائه من الرعيل الأول من دعاة الاستقلال من الماسونيين أيضاً .
بدايات بورصة نيويورك
نال رأسماليو الشمال الأمريكي مآربهم، فإذا لم يستطيعوا أن يلغوا قانون 1764 بالإقناع فلقد ألغوه بالقوة . بدأوا إصداراتهم المالية من جديد . في سنة 1791 اجتمع 24 من كبار تجار وبارونات المال سراً تحت شجرة البطم، حيث وقعوا اتفاقاً بينهم سمي باسم الشجرة التي عقدوا اجتماعهم تحتها، حيث أصبحت الاتفاقية تعرف باتفاقية بوتم وود Buttomwood Agreement . كان فحوى الاتفاقية أنه لن يسمح بتداول الأوراق المالية إلاّ بين هؤلاء الأربعة والعشرين لا غير . وتطور سوقهم المالي بحيث أصبح يسمى سوق نيويورك المالي New York Stock Exchange، وعندها قرروا أنه لا يمكن انضمام أحد إلى هذا السوق في حال اعترض أي ثلاثة من المؤسسين على الانضمام . قاوم أصحاب البنوك تأسيس بنك مركزي أمريكي . في العام 1816 قال الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون "آمل اننا سنتمكن من القضاء على ارستقراطية شركاتنا المالية ووأدها في مهدها . فقد تجرأت على تحدي حكومتنا في استعراض لقوتها واستخفافها بقوانين دولتنا" . وبدلاً من وأدها في مهدها، تنامت البنوك عدداً .
العبودية بعد الاستقلال
كان عدد العبيد سنة 1790 يقارب 700000 إلا أن عددهم أصبح حوالي 4 ملايين بحلول سنة 1860 . وحيث إنهم ممتلكات تباع وتشترى، كانت قيمتهم السوقية عام 1805 تساوي 300 مليون دولار، لكنها ارتفعت لتصبح 3 مليارات دولار سنة 1860 وهي قيمة فلكية في ذلك الحين، كان 90% منها في الجنوب . ثار العبيد 3 مرات في السبعين سنة قبل الاستقلال لكنهم ثاروا سبع مرات في السبعين سنة بعد الاستقلال .
بدأ اقتصادا الشمال والجنوب يتكونان بطرق مختلفة . فالزراعة كانت عماد الجنوب الرئيسية، أما الصناعة فكانت من نصيب الشمال ومموليه . أصبح الشمال بحاجة إلى العبيد كعمال في مصانعه في الشمال، وكمستهلكين لبضائعه، فبدأت دعوات تحرير العبيد لا لوجه الله ولكن لكي تنتقل من الشمال على دعاوى إنسانية أو دينية . لكن سرعان ما تم إنشاء المجمع المعمداني للولايات المتحدة الجنوبية، والذي أفتى سنة 1845 بأن الإنجيل قد حلل العبودية .
في نهاية عقد الخمسينات للقرن التاسع عشر، تعطلت العملية السياسية . أصبح الكونغرس غير قادر على إصدار القوانين المحابية لأصحاب الأموال، ذلك أنهم أرادوا الحماية لمنتجاتهم الصناعية، وعارضها أهل الجنوب لأنه سوف تنتج عنها زيادة في الأسعار، كذلك عارضوا مشاريع القنوات والسكك الحديدية التي تبناها أهل الشمال . وهكذا وصل تضارب المصالح الى حد قرر عنده أهل المصارف والصناعة تغيير الأمر الواقع بالقوة، ولم لا يكون تحرير العبيد (وامتلاكهم جزءاً من قيمتهم السوقية بالمجان) هدفاً نبيلاً يتم الادعاء بأنه سبب رئيسي للحرب؟
كانت الحرب الأهلية الأمريكية هي حرب بين الرأسمالية الزراعية في الجنوب والرأسمالية الصناعية / المالية في الشمال حيث كانت الغلبة للأخيرة، ولكن على أجساد 620000 أمريكي من "الغلابة" أي ما يعادل 3% من مجموع سكان أمريكا حينئذٍ . وبالطبع لم يحارب الأثرياء حيث إن قانون "البدل" كان يعفي من الخدمة من يدفع 300 دولار . ابن الرئيس لينكولن وكذلك البارونات اللصوص الذين جنوا ثمار الحرب لم يحارب أحد منهم .
الفساد سيد الموقف
كانت الأحزاب السياسية والسياسيون، بمختلف رتبهم وأماكنهم، فاسدين مفسدين، تباع القوانين وتشترى في ردهات الكونغرس وعلى قارعة الطريق . كان وكيل آل روتشايلد في أمريكا أوغست بلمونت August Belmont يشغل منصب رئيس اللجنة القومية للحزب الديمقراطي . أما رئيس اللجنة القومية للحزب الجمهوري وليام تشاندلزWilliam Chandler فكان يتلقى الرشى والهبات المالية من أربع شركات مختلفة في قطاع سكك الحديد في الوقت نفسه . أما بعض أعضاء مجلس الشيوخ فكانوا يتلقون أتعابهم مقدماً من الشركات التجارية الكبرى .
في هذه الأثناء طال الفساد أكثر أعضاء إدارة الرئيس غرانت Grant، وكما تقول كاتبة السيرة لمورغان، جين ستراوس، "إنها أكثر الحكومات فساداً في ذلك القرن، حيث لطختها الفضائح المالية التي وصمت كل عضو من أعضاء الوزارة فيها" . كما تورط نائب الرئيس في قضية مع المؤسسة المالية كريدت موبيلييهCredit Mobilier عام 1872 حيث أصدرت اسمها بأسماء أعضاء في الكونغرس لمشروع سكك حديد، مقابل الموافقة على منح قروض اتحادية . وحيث إن جديد الرأسمالية والنظام الأمريكي قديم استقال نائب الرئيس الأمريكي اغنيوAgeniew سنة 1972 على خلفية قصة رشوة من أحد المقاولين . في عقد السبعينات لهذا القرن استعمل البارونات اللصوص كل الأساليب لخلق الاحتكارات . فخلاله سيطر جون روكيفيلر على صناعة النفط بوساطة شركته ستاندرد أويل، فأصبح يملك في سنة 1879 90% من صناعة وتجارة تكرير البترول في الولايات المتحدة، كما سيطر على سبيل المثال أيضاً اندرو كارنجي Andrew Carnegie على قطاع الفولاذ وشركاته الواحدة تلو الأخرى .
وفي المقابل أصبحت الاضطرابات العمالية منتشرة على نطاق واسع، ففي عام 1886 وحده قام العمال بحوالي 1600 إضراب عن العمل، وشهدت الفترة من عام 1889 حتى نهاية ذلك القرن عدداَ كبيراً من الاضرابات والاضطرابات .
حزب الشعب: حلول لا رأسمالية
لعل أحد الأمثلة على أن جديد الرأسمالية قديم وقديمها جديد، أنه حينما نقرأ ما قاله أحد أعضاء حزب الشعب إيغناتيوس دونيللي Ignatius Donnelly في مؤتمر حزب الشعب في الربع الأخير من القرن التاسع عشر تظن أنه يصف حالة اليوم:
"نعيش في زمن وصل إلى حافة الخراب الأخلاقي والسياسي والمادي . لقد أصبحت الشركات هي التي تهيمن على الانتخابات والمشرعين والكونغرس، حتى وصل هذا الخراب الأخلاقي والسياسي إلى المحكمة العليا . أما الجرائد فهي إما مموُلة منهم أو أنها مكتومة الصوت . كما أن الرأي العام قد تم إسكاته . وبينما يزدهر أصحاب الأعمال فإن بيوتنا مرهونة، وعمالنا معدمون وتسرق الأراضي ليتم بناء ثروات خيالية غير مسبوقة في تاريخ العالم من أناس يحتقرون جمهوريتنا، ويعرّضون الحرية للخطر . ومن رحم اللاعدالة الحكومية تولد طبقتان_ المسحوقون وأصحاب الملايين" .
في سانت لويس عام ،1889 كان أن وضع ماكيون وحزب الشعب خطة تدعو إلى المطالبة والمناداة بأن الديمقراطية تستدعي وجود نظام مالي ديمقراطي غير مركزي من حيث السيطرة على القروض والاعتمادات، بحيث يسمح بتدفقها للمنتجين الحقيقيين، بما يضمن انتشار الفرص وتوسيع الدخل أكبر قدر ممكن . ولا يتحقق ذلك إلاّ من خلال الإقراض الحكومي المباشر للمنتجين دون أية وساطة (من البنوك) . وضعوا خطة مفصلة أصبحت تعرف باسم خطة الخزائن الفرعية . وتنص هذه الخطة على أن تقوم وزارة الخزانة الأمريكية في كل مقاطعة ذات منتوج زراعي واسع، ببناء مخزن فيدرالي ومصاعد للحبوب، وبذلك يكون هناك الآلاف من هذه المراكز التي ستسمى الخزائن الفرعية . وبإمكان المزارع أن يودع منتوجه في إحدى هذه الخزائن الفرعية ويقترض بفائدة 1% أو 2% على وديعته . وليصبح بمقدوره أيضا أن يبيع محصوله بالأسعار السائدة أو أن يقترض بضمان قيمة أرضه . ويُدفع للمزارعين حسب هذه الخطة بالأوراق النقدية، أي الدولارات التي ليس لها غطاء ذهبي، بحيث يغطيها الإنتاج الحقيقي . ومن الممكن أيضا أن تكون الدفعات على شكل شهادات إيداع قابلة للتداول بحيث يمكن مقايضتها وتداولها . وتقول الخطة إن هذه الموارد المالية والعرض النقدي قد تُسحب نظريا بعد أن يُسدد المزارعون قروضهم .
كما طالبت الخطة بأنه ينبغي أن يكون للمال غاية اجتماعية، لا أن يكون فقط لمجرد كسب المزيد من المال . ومن الواضح أن هذه الخطة من شأنها أن تخرج أصحاب البنوك من دائرة الإقراض، حيث إن القروض ستذهب مباشرة إلى المستفيدين . ولكن هذا النظام لم يكن ليكتب له الحياة طالما أن لأصحاب البنوك محاسيبهم وعملاءهم المخلصين في واشنطن، وطالما أنهم لا يزالون يُحكمون سيطرتهم على قوة المال .
وبدأ أعضاء حزب الشعب يراقبون وينتقدون تصرفات حكومتهم، فعندما أنقذت وزارة الخزانة الأمريكية البنوك التجارية في التسعينات من القرن التاسع عشر، عن طريق تخفيض الفائدة إلى 1% على دينها لتلك البنوك والبالغ 47 مليون دولار، كتب تريسي قائلاً:
" . . . طالما أن الحكومة تستطيع إقراض المال لأصحاب هذه البنوك بنسبة 1% على ضماناتهم، فلماذا لا تقوم بإقراضه للشعب على ضماناته؟ وما دامت الحكومة تستطيع إنقاذ أصحاب البنوك هؤلاء من خلال الفارق البسيط بين سعري الشراء والبيع، وتجنيبهم التضحية بضماناتهم، فلماذا إذن لا تستطيع أن تفعل الشيء ذاته مع الشعب؟ يا لها من سخرية واستهزاء من هذه الحكومة الديمقراطية أن تمنح مزاياها لأربعة آلاف رجل لأنهم أغنياء، وتنكر هذه المزايا ذاتها على 65 مليون شخص" . كانت أفكار حزب الشعب ثورية وأصيلة وكانت من خارج النظام الرأسمالي الذي أفرز بينهم التعاسة والفقر والحرمان . فكانت لهم آراؤهم في السياسة النقدية للدولة . كان أعضاء الحزب يرون أن السياسة والنظام النقدي الأمريكي وسيلتان للانحياز والاضطهاد . وقد بدأوا أولاً بوضع تعريفهم للمال، حيث يقول أحد أعضاء حزب الشعب المنتخب حديثاً في الكونغرس:
"إننا نُعرّف المال بأي حال على أنه صنيعة القانون، وتمثيل بسيط للقيمة، وأداة للصرف، وهو ليس بأي حال من الأحوال سلعة تباع وتشترى . " لقد وضع هذا النائب يده على إحدى العلات الرئيسية لرأسمالية القرن العشرين، حيث إنها تعتبر المال سلعة تباع وتشترى .
وفي الانتخابات الوطنية لعام ،1890 فاز حزب الشعب بخمسة مقاعد في مجلس الشيوخ، وعشرة مقاعد في مجلس النواب . وظلت انتصاراتهم تتكرر الواحدة تلو الأخرى، في عام ،1894 كانت شعارات حزب الشعب هي "مال الشعب"، "أرض الشعب"، " ثروة الشعب" و"مواصلات يملكها الشعب" .
وبدأ أعضاء ومناصرو حزب الشعب يطالبون بنظام قومي جديد وأموال قومية جديدة تصدرها الحكومة بدلا من البنوك المحلية المخصخصة، كما كان الحال عليه . وتحدثوا عن "رأسمال مركزي متحالف مع قوى الشركات غير المسؤولة" .
وفي خطاب ألقاه في سانت لويس، قال ليونيداس لافاييت بولك: " لقد آن الأوان ليوحد الغرب العظيم والجنوب العظيم والشمال الغربي العظيم قلوبهم وأياديهم معاً، ويمشوا مشية رجل واحد إلى صناديق الاقتراع السرية ويستولوا على الحكومة، ويعيدوا إليها مبادئ آبائنا، ويديروها بما يتماشى ومصالح الشعب" .
بداية عصر الإمبريالية الأمريكية
أصبحت الولايات المتحدة محتاجة لأسواق أجنبية بسبب اقتصادها الراكد وإنتاجها المرتفع . وقال ثيودور روزفيلت، الذي تولى الرئاسة فيما بعد، قال حين كان يشغل منصب مساعد وزير البحرية في إدارة الرئيس ماكينلي "إن هذه البلاد تحتاج حرباً"، وهكذا بدأت الصحافة حملتها الإعلامية المنسقة دوماً بين أصحابها من بارونات لصوص ضد إسبانيا لإعداد الشعب نفسياً لتقبل وخوض الحرب . وزعمت الصحافة أن الوحشية التي تمارسها إسبانيا في كوبا لم تعد تطاق، وطالبت الولايات المتحدة بالتدخل .
وفي منتصف شهر فبراير/شباط من عام ،1898 اندفعت الولايات المتحدة إلى الحرب ضد إسبانيا بعد غرق السفينة الحربية الأمريكية، مين، Maine في ميناء هافانا تحت ادعاء أن الاسبان قد أغرقوها . وتمخضت هذه الحرب عن احتلال أمريكا لكوبا وغيرها من المناطق الاسبانية، بما فيها جزر الفلبين النائية . وسرعان ما اتضح فيما بعد أن غرق السفينة مين كان نتيجة "عطل" داخلي، وليس نتيجة طوربيد إسباني كما زعم آنذاك . وحسب الانسكيلوبيديا بريتانيكا، فهذه الحرب كانت بداية لعهد أمريكا الإمبريالي . حاول الأمريكيون إقناع كولومبيا بإعطائهم امتيازاً لفتح قناة في بنما فلم يوافق برلمانهم على ذلك، عندئذٍ تواطأ الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت عام 1903 مع الشركة الفرنسية في الإعداد لثورة سرية في بنما . وهكذا فقد تم إيجاد جمهورية بنما الجديدة وفصلها عن كولومبيا، خدمة لغرض محدد هو الموافقة على معاهدة مع الولايات المتحدة مكنت من شق قناة بنما لتصل بين المحيطين الأطلسي والهادي، وقد بدئ بتشغيل القناة في الخامس عشر من أغسطس/ آب عام 1914 . وتحت نظام حكم الرئيس الأمريكي ويلسون ثم احتل هايتي حيث أصبحت محمية أمريكية، واحتل الرئيس المذكور جمهورية الدومينيكان عام ،1916 كما جعل نيكاراغوا محمية أمريكية، وابتاع الجزر العذراء الدنماركية بمبلغ 25 مليوناً من الدولارات .