السياسة فن الممكن، والذي يحدد الممكن هو الوعي على ما لديك من مقدرات وطاقات وعلى ما عند عدوك منها. ودون العزم والحزم والشجاعة، سيتملكك الخوف وستقتلك الهواجس والحيرة، وعندها لن تتمكن من فعل القليل فما بالك بالكثير! لا بل فإنك ستكون عاجزاً عن حماية مقدراتك وستتبعثر الطاقات وتضمحل وتتلاشى. وغالبا ما يؤدي الحرص الزائد إلى هذه النتائج حتما. وأما غير الممكن فهو طريق الحالمين والواهمين والجهلة والمتهورين.

ولذا فإن الوعي هو سيف السياسة وبوصلتها ولا تكون السياسة سياسة ولا تكون ممكنة بدون الوعي. فالوعي هو الموجّه للاستراتيجيات والخطط والأساليب، وهو الذي يقدم ويؤخر الأهداف المتنوعة المرجو تحقيقها حسب الظروف الدولية والإقليمية وحسب إمكانيات تحقيق هذه الأهداف من قنص للفرص وموازنة ما بين الحذر من الفخاخ المزروعة من جهة وما بين الإقدام المطلوب مع حسن استخدام المقدرات والطاقات المتوفرة، وخير مثال على هذا كله تأخير رسول الله ﷺ فتح مكة بعد أن حيّدها أولا بصلح الحديبية ليتفرغ لخيبر، ومن ثم عاد لفتح مكة وهو آمنٌ من يهود خيبر ليحقق هدفه الأكبر وهو فتح مكة، لتصبح الجزيرة العربية كلها بقبضة يده وتحت أمره وسلطانه، الأمر الذي مكّنه من بلوغ أهداف كانت في البدايات عبارة عن أهداف غير ممكنة، بل كان العرب يعتقدون أنها حلم لا يمكن مجرد التفكير به!

ولذا فإن غير الممكن ليس هو قدراً لا يمكن تحقيقه أبدا في السياسة، وإنما المطلوب هو توفير أسباب تحقيق غير الممكن والعمل الدؤوب على زيادة الطاقات والقدرات على كافة الأصعدة لتحقيق ما يعتبر اليوم غير ممكن. وهكذا فتح المسلمون الشام وغلبوا الروم، وهكذا فتحوا فارس وغلبوهم على أرضهم، وهكذا فتح محمد الفاتح القسطنطينية وجعلها عاصمة الدولة العثمانية...

والذي يميز المسلمين في هذا المضمار أنهم يتوكلون على الله وينشدون أهدافاً سامية ورفيعة وعيونهم ناظرة إلى ما عند الله مما ييسر عليهم الصراع ويجعله مقدسا في أعينهم، فهم في معية الله وهو ناصرهم لا محالة، ولذا لا تنقصهم الشجاعة والإقدام... قال تعالى في سورة محمد ﷺ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾.

ولكن المشكلة عند المسلمين اليوم تكمن في النقطة الأولى وهي عدم وعيهم على ما لديهم من مقدرات فكرية ومادية؛ من طاقات وثروات وإمكانيات على جميع الأصعدة والمستويات. فتحول لديهم الممكن إلى مستحيل والمستحيل إلى ممكن! واختلطت الأفهام وضلّت فلا تجدها تهتدي لأبسط أنواع الفهم الذي يقضي بتحديد العدو من الصديق والمصلحة من المفسدة، فتنازع القوم وفشلت ريحهم! وصار الأعداء يلعبون بنا كما يحلو لهم من خلال حكامنا وأنظمة التقسيم وعبر حدود الاستعمار التي خُطّت على الأرض أولا ثم في عقول المسلمين بعد ذلك.

وبهذا وُضع عامل الشجاعة والإقدام الذي يتميز به المسلمون في غير محله وأصبح سيفاً على الأمة هنا وهناك، وما حال المسلمين في ليبيا وسوريا والعراق وأفغانستان واليمن وغيرها إلا خير شاهد على ذلك.

إن الوعي السياسي قد ضعف عند الأمة منذ أن نقضت عروة الحكم، الأمر الذي أدى لنقض العرى الأخرى. وصدق رسول الله ﷺ حين قال فيما أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والطبراني في المعجم الكبير، وابن حبان في صحيحه بإسناد جيد عن أبي أمامة الباهلي عن النبي ﷺ أنه قال: «لَيُنْقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الْحُكْمُ وَآخِرُهُنَّ الصَّلَاةُ».

ولذا فإنه من الضروري معرفة أن السبب الرئيس لضعف الأفهام والتضليل الذي حصل عند المسلمين سببه غياب دولة الإسلام وتفرقهم وتشرذمهم في ما يزيد عن 55 دويلة بعد أن كانوا دولة واحدة؛ لهم دستور واحد، وهم أمة واحدة من دون الناس، وجيشهم واحد، وخليفتهم واحد، هذا الأمر هو أساس الفهم السياسي لدى أمة محمد؛ فالخلفاء هم من يخلفون النبي في أمته والشرع الذي جاء به. هكذا يبدأ الفهم لحل المشاكل الموروثة الآن، وهذا هو المنطلق لتصحيح الأمور والأفهام. فعن أَبي هريرةَ رضي الله عنه قَالَ: قالَ رَسُول اللَّه ﷺ: «كَانَت بَنُو إسرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبياءُ، كُلَّما هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبيٌّ، وَإنَّهُ لا نَبِيَّ بَعدي، وسَيَكُونُ بَعدي خُلَفَاءُ فَيَكثُرُونَ»، قالوا: يَا رسول اللَّه، فَما تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: «أَوفُوا بِبَيعَةِ الأَوَّلِ فالأَوَّلِ، ثُمَّ أَعطُوهُم حَقَّهُم، وَاسأَلُوا اللَّه الَّذِي لَكُم، فَإنَّ اللَّه سائِلُهم عمَّا استَرعاهُم» متفقٌ عليه.

ولذا فإن على المسلمين أن يعوا بأن بدء تصحيح أمورهم وحل مشاكلهم يكون بالعمل لاستئناف الحياة الإسلامية من جديد بإقامة دولة الإسلام ومبايعة خليفة يحكم بشرع الله وهدم دويلات سايكس بيكو وتوحيد المسلمين وخيراتهم وطاقاتهم وأفهامهم وقلوبهم في دولة عز ورحمة لهم وللعالمين، وها هو حزب التحرير الذي يعمل مع شبابه العرب والكرد والترك والعجم... رجالا ونساء لتحقيق هذه الغاية، فالله الله في أنفسكم والله الله في أمتكم والله الله في دينكم.

قال تعالى في سورة محمد ﷺ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾.

كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
د. فرج ممدوح